“انهيارات إسرائيل” عبدالحليم قنديل

0 36

لا يتوقع أحد عاقل، أن تتوقف انهيارات “إسرائيل” الداخلية، فقد بنيت هذه “الدولة” على زيف مطلق، لا يحجب أبدا حقيقتها ككيان احتلال استيطانى إحلالى، وأريد لها أن تبدو كدولة طبيعية، لها سمات دول الغرب الاستعمارى الذى أنشأها ويحميها، وتنتحل صفة المجتمع المستقر بتكوينه التاريخى، وبصراعات الطبقات والمذاهب فيه، وبتوزيعات نخبه إلى يمين ويسار ووسط، وبتداول سلطة يبدو ديمقراطيا، وبفصل سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية، يجعل إسرائيل كما يزعم المؤسسون والتابعون، تبدو كمثال ديمقراطى غربى فريد وسط صحراء الاستبداد العربى المحيط .

اخبار مشابهة
1 من 50

بدا الاصطناع ظاهرا فى القصة كلها، فما من دولة طبيعية فى الشرق والغرب والجنوب والشمال، تبدو على الهيئة “الإسرائيلية”، جرى ويجرى جلب سكانها من بيئات تاريخية وعرقية وثقافية مختلفة، اللهم إلا فى دول الإحلال الاستيطانى فى الأرض الجديدة عبر القرون الأخيرة، كما جرى مثلا فى تاريخ الأميركتين الشمالية والجنوبية، وفى استراليا ونيوزيلندا وغيرها، مع فارق مرئى تماما، هو أن دول الاستيطان النهائى الناجح، أحلت جماعات الاستيطان بثقافاتها الوافدة، ومحت أو كادت تمحو كل وجود مؤثر للسكان الأصليين، ولم تبق منهم سوى شذرات سكانية متفرقة، لا تقوى بعد اقتلاع جذورها الأصلية على مقاومة ذات مغزى، فقد أفنيت الشعوب الأصلية بمذابح جماعية مروعة، وهو ما أتاح للشعوب الوافدة، أن تبنى مجتمعاتها فى خلاء سكانى وجغرافى، وأن تستعير من ثقافة المنشأ الغربى الغازى، وأن تطور ما يشبه الديمقراطيات الغربية، بعد مخاضات عنيفة، وثورات وانتفاضات، وهو ما لم يحدث مثله فى سيرة الاستيطان الإسرائيلى، ولا فى سير حالات سبقت من استيطان الغاصبين، خصوصا فى قلب العالم القديم، كما جرى مثلا فى الجزائر وجنوب أفريقيا، وقد انتهت إلى استيطان فاشل بامتياز، ولأسباب ظاهرة، أهمها كثافة حضور الشعوب الأصلية ، واستعصاؤها على مذابح الاقتلاع والإحلال ، أضف إلى ذلك مآزق أخرى فى حالة “إسرائيل” ، التى أراد لها مؤسسوها ، أن تبدو كدولة حديثة ، ترتكز فى عملية تكوينها على أساطير توراتية قديمة فى الوقت نفسه ، وهو ما بدا فى معضلة “ديفيد بن جوريون” المؤسس الأول ، القادم وأسرته من “بولندا” ، والملحد بلا شبهة ، فقد كان يهزأ بالتوراة ووعودها وأرض ميعادها ، لكنه يراها مفيدة نافعة فى جلب اليهود إلى فلسطين ، ويثق بالقوة وحدها ، التى لا تبنى كيانا محاربا بغير “الكيبوتزات” و”الهستدروت” وتكريس أساطير العمل العبرى ، وعبثا حاول “بن جوريون” مع نظرائه تطبيع الدولة ، فلم يجد سوى ما أسماه “إعلان الاستقلال” ، وإن بدا فى العنوان زيفه ، فهو فى حقيقته إعلان احتلال لا استقلال ، مشفوع بأساطير دينية كاذبة ، لا يصدقها “بن جوريون” نفسه ، الذى لم يجد متسعا لصياغة دستور لدولته ، ينظم به سلطاتها وعقدها الاجتماعى ، فقد وجد نفسه بصدد كيان مهمة ، لا كيان دولة يجرى تطبيعها ، والمهمة الحربية المفتوحة ، لا تتساوق مع بناء مجتمع مدنى مستقر ، وكيان المهمة بلا حدود ، لا تحميه سوى العسكرة الدائمة ، والذهاب لملاقاة الخطر ، وبغير حدود يمكن عقلنتها وتبريرها ، فالمهمة العدوانية بلا نهاية ، والدولة بالتعريف ذات حدود نهائية معروفة ، والذين اجتمعوا فى الكيان من مشارب متنوعة متناقضة ، بعضهم يؤمن بأساطير زيف من نوع “إسرائيل الكبرى” ، وبعضهم الأكثر نفوذا يترك الأقواس مفتوحة، ولا يستبقى من اليهودية سوى معنى ثقافى ، يتسق مع دعوى الصهيونية ، التى تزعم أن اليهودية ليست مجرد ديانة ، بل شعب وقومية وعرقية واحدة نقية ، وهو ما لا يقوم عليه دليل فى الواقع ، ولا فى علم تطور الأجناس ، فلا “الأشكناز” الغربيون يشبهون “السفارديم” الشرقيين والعرب ، ولا “يهود التوراة” الذين انقرضوا تقريبا ، يشبهون المتهودين من نسل مملكة “الخزر” القروسطية فى شرق أوروبا ، وهم الكثرة الغالبة بين يهود الغرب والمجلوبين منه ، وفى غابة التناقضات ، كان اللقاء الوحيد الممكن على حد السيف ، وعلى ملتقى الحروب الناجحة المدعومة من الغرب بكل قوته ، وحين توقف الفوز الحربى السريع ، بدأت التناقضات تطفو على السطح ، وتؤتى أكلها السام فى العمق ، ولم يكن من فراغ ، أن “نفتالى بينيت” زعيم حزب “البيت اليهودى” مثلا ، وهو ابن اليمين الدينى الإسرائيلى المهووس بأوهام التوراة ، وإن كان يعادى “بنيامين نتنياهو” اليوم ، ويجد نفسه محشورا رغم أنفه فى زمرة ما يسمى أحزاب وجماعات المركزوالجنرالات واليسار، وتعتبر نفسها فى حرب مع حلفاء “نتنياهو” الأشد تطرفا ويمينية ، وفى زحمة التباسات مختلطة بالانهيارات ، بدا “نفتالى” هلعا على مصير “إسرائيل” كدولة ، وقال أنها تواجه خطرا وجوديا غير مسبوق منذ حرب 1967 ، فقد كانت هذه الحرب آخر انتصارات إسرائيل ، ولم تفز “إسرائيل” بعدها فى حرب أبدا ، لا فى حرب الاستنزاف ولا فى حرب 1973 ولا فى حرب لبنان ولا فى حروب غزة الخمسة ، وها هى اليوم ، ومنذ سنوات ، تواجه حربا من نوع مختلف فى الضفة والقدس والداخل المحتل منذ نكبة 1948 ، أى أنها تواجه الحرب بين ظهرانيها ، وفى صلب فكرتها المتواطأ عليها تلفيقا ، والتى لم تحسم أبدا هوية الدولة ، إلا بصياغات رجراجة على الورق ، فتعريف “إسرائيل” لنفسها كدولة “يهودية” خالصة ، يواجه بحقيقة مختلفة ، هى أنها تحتل أرضا هى فلسطين التاريخية كلها إضافة للجولان ، غالبية سكانها من الفلسطينيين العرب ، لا من اليهود المجلوبين ، ثم أن تعريف إسرائيل لنفسها أحيانا كدولة “ديمقراطية” ، يواجه بحقيقة نافية للديمقراطية ، فلا تتسق الديمقراطية مع الاحتلال والفصل العنصرى ، ثم أنه ليس من تعريف متفق عليه لليهودية فى إسرائيل ، وتضخم اليمين اليهودى المتطرف يهدد بجعل “إسرائيل” إثنتين لا واحدة ، “إسرائيل” لليهودية الأرثوذكسية “الحريدية “، و”إسرائيل” أخرى لليهودية الثقافية و”الإصلاحية”، وبين “الإسرائيلتين” فصام داخلى ، بدت فيه مشاهد الأسابيع الأخيرة العاصفة ، وتدفق مظاهرات الغضب من الطرفين ، المتدافعة إلى الشارع بمئات الألوف ، وكأنها تمهيد لصدام دموى ، تخوف معه بعضهم من اندفاع “إسرائيل” إلى حرب أهلية بين “إسرائيل العلمانية” و”إسرائيل الحاخامات” .
المحصلة إذن ، أنه لم يكن للكيان الإسرائيلى أن يصل إلى حالة الإنشقاق الأخيرة ، وإلى دوامات الانفلات الجامح ، الذى زحف من الشارع إلى صلب جيش الاحتلال نفسه ، لم يكن لذلك وسواه أن يحدث فى التكوين الهجين، إلا تحت ضغوط خمسة عقود مضت من الشعور المتزايد بالإحباط ، وبتدنى فرص الفوز فى المقتلة ، التى بنى كيان المهمة الإسرائيلى على اتصالها ، فالقصة أبعد من خلاف عابر باسم إصلاح أو تقويض القضاء و”المحكمة العليا” ، وأكبر من شهوة “نتنياهو” بالبقاء على رأس السلطة ، وعبر “هد حيل” القضاء الذى يطارد جرائم فساده وخيانته للأمانة ، ولم يجد لذلك سبيلا ،غير التحالف فى حكومته “السادسة” مع المدانين بالإرهاب وأرباب السوابق ، من نوع أحزاب “بن غفير” و”سموتيريتش” ، وكلهم يتلطى تحت عناوين دينية من ماركة “العظمة اليهودية” و”الصهيونية الدينية” ، ويريدون أن يجعلوا من القضاء ظلالهم لا سيفا عليهم ، ويدركون بالغريزة أن عقائدهم إجرامية ، وأن استتارها بالدين محض زيف ، لا يتساوق مع اعتبارات الدولة أى دولة ، حتى لوكانت كيان مهمة كالكيان الإسرائيلى ، ولا حتى مع مخاتلات اللعب على الحبال ، التى درج عليها زعماء “إسرائيل” الكبار والصغار ، وتسوية التناقضات بتجاهلها غالبا ، وتوجيه طاقة التجمع الإسرائيلى للعدوان الهمجى على الشعب الفلسطينى المقاوم ، وهو ما دفع فرقاء السطح “الإسرائيلى” للبحث عن تسوية مع “نتنياهو” ، وتهدئة الاشتباك الداخلى بعد استعراضات القوة التى جرت ، والتقاط مناورة “نتنياهو” بتأجيل مناقشة قوانين السيطرة على القضاء فى “الكنيست” ، والبحث بالتفاوض عن صيغة وسطى ، قد لا يدوم أثرها طويلا ، فاليمين الدينى المدعوم بتزايد متصل فى قوته الانتخابية ، استغل حتى فرصة التهدئة لكسب قوة سلاح إضافية ، وإضافة ميليشيا باسم “الحرس الوطنى” ، بعد تسليح مئات آلاف المستوطنين ، وفى حرب كبرى يتصورها ضد صحوة المقاومة الفلسطينية ، لا يجد لها بديلا لكسب ما يسميه “إسرائيل الكبرى” ، التى عرض بعضهم خريطتها المتضمنة للأردن ولما وراء الأردن ، وفى عوارض دفاع نفسى مع اجتياح المخاوف للكيان الإسرائيلى ، واللجوء مجددا لحقيقته ككيان مهمة حربية دائمة لا كدولة طبيعية ، بينما يحتمى الواهمون بطبيعية دولة إسرائيل وراء جدار رمزى اسمه “المحكمة العليا” ، لا تعنى للفلسطينيين سوى حقيقتها كأداة قهر وتسويغ احتلال ، يواجه كيانه انهيارات داخل لا مفر منها ، وإلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا .

اترك رد