عبدالحليم قنديل يكتب”كوابيس أمريكا”

0 147

محنة أمريكا ليست فى خبل شخصية دونالد ترامب ، وقد لا يعنى زوال رئاسته زوالا للمرض ، فقد كان “الرجل البرتقالى” عرضا لمرض أمريكا المتفاقم ، واتهامه بالتمرد على المؤسسة الأمريكية فى محله تماما ، وقد تعرض ويتعرض لمحاكمات برلمانية وجنائية ، قد تحرمه من فرصة الترشح مجددا للرئاسة فى 2024 ، ومن دون أن يعنى ذلك نهاية “الترامبية” ، التى قد تكون الإشارة الأبرز إلى تراجع أمريكى لاعودة منه.

اخبار مشابهة
1 من 50

نعم ، قد لا تتحقق نبواءات تفكك أمريكا قريبا ، وعلى طريقة تفكك الاتحاد السوفيتى قبل عقود ، لكن أمريكا التى كانت لن تعود ، وسيرة الحلم الأمريكى انتهت إلى زمن الكوابيس ، وحادث اقتحام الكونجرس من قبل أنصار ترامب ، ونهب محتوياته ، وتحويله إلى ميدان لتبادل إطلاق الرصاص ، وسقوط قتلى وجرحى بالعشرات ، واتهام المقتحمين الأمريكيين بالإرهاب ، كل ذلك قد لا يكون مجرد جملة اعتراضية ، بل إشارة بليغة إلى ما ينتظر أمريكا فى قابل أيامها ، فقد تتسع ميادين الرصاص ، وقد تصبح أمريكا على شفا وضع يشبه الحرب الأهلية ، ولم يسبق للولايات المتحدة بعمرها الأكثر من قرنين ونصف قرن ، أن تعرضت لتفكك فى نسيجها ، كالذى يجرى اليوم ، ربما منذ أحداث الحرب الأهلية الأمريكية قبل أكثر من 150 سنة ، التى انتصرت فيها ولايات الشمال على ولايات الجنوب ، وحولت الرئيس إبراهام لينكولن إلى رمز لوحدة أمريكا وتحرير العبيد ، بعدها جرى اغتياله برصاص المهزومين ، وهو يشاهد مسرحية هزلية ، كادت تتكرر ايحاءاتها الخطرة فى غزوة الكونجرس الأخيرة ، فعلى كثرة مشاهد الاقتحام المنقولة مباشرة على الهواء ، وتصاعد هتافات شنق مايك بنس نائب ترامب المتهم بخيانته ، وصيحات دهس نانسى بيلوسى الديمقراطية رئيسة مجلس النواب ، لكن كانت أيقونة الصور كلها فى مكتب بيلوسى ، وقد احتله مقتحم ترامبى بزى يشبه رعاة البقر ، ووضع قدمه على مكتب السيدة الشرسة ، وتصدر حذاؤه الشاشات ، وبدا الحذاء ، وكأنه تاج العار والتحقير الموضوع فوق رأس المؤسسة والديمقراطية الأمريكية .
ولن ينجح الرئيس الجديد جوبايدن غالبا فى وقف اندفاع تيار المأساة ، صحيح أنه فاز انتخابيا بفارق ظاهر ، وحصل على أصوات 80 مليون ناخب أمريكى ، وعلى أغلب أصوات المجمع الانتخابى ، وتسانده أغلبية تناقصت فى مجلس النواب ، وأغلبية حرجة فى مجلس الشيوخ ، الذى حصل فيه “الحزب الديمقراطى” على 50 مقعدا من مئة ، يضاف إليهم الصوت المرجح لنائبة بايدن “كامالا هاريس” ، وبما يسهل عملية إقرار مجلس الشيوخ لترشيحات الإدارة الجديدة ، وقد سبق لبيل كلينتون وباراك أوباما أن حظيا بهذه الميزة فى أول فترات رئاستيهما ، لكن متاعب بايدن المنتظرة فى مكان آخر خارج المؤسسة ، فليست القصة فى فوز بايدن وهزيمة ترامب انتخابيا ، بل فى انقسام اجتماعى وسياسى وعرقى غير مسبوق ، فنحو 75 مليون ناخب أعطوا أصواتهم لترامب ، ولا يعترف أغلبهم بفوز بايدن ، ويعدونه فوزا مزورا ، وسرقة للانتخابات ، ومؤامرة من المؤسسة أو “الدولة العميقة” بحسب تعبيراتهم ، وجماعاتهم الأكثر تشددا مثل “ماجا” و”الأولاد الفخورون” ، وغيرها فى 16 جماعة عنف إرهابى كما تقول تقارير “الإف. بى . آى” ، وكلها لا تتردد فى إبداء الاستعداد للقتال كما يقولون ، وحق حمل السلاح متاح لكل أمريكى بحسب الدستور ، وهو ما يقلق بايدن ، الذى تعهد بجعل معالجة الانقسام أولوية لإدارته ، بينما لا يملك الرئيس العجوز (78 سنة) فرصة مواتية ، فقد فاز بأصوات كارهى ترامب ، وليس بأصوات مغرمة بشخصية بايدن الباهتة ، وكان ترامب هو محور الحوادث ، وصعد بايدن على كف الأقدار ، التى قلصت شعبية ترامب ، من نوع أقدار جائحة كورونا ، ومعها كثافة وامتداد مظاهرات رفض عنصرية الشرطة البيضاء القاتلة للمواطنين السود ، وليس بوسع بايدن ترميم الفجوات المتسعة ، ولا ردم الشروخ العميقة فى صورة المجتمع الأمريكى الراهن ، فسيكون بايدن على الأغلب رئيسا لفترة واحدة ، وأربع سنوات لا تكفى لإنهاء انقسام تعمق عبر عشرات السنوات الأخيرة ، وربما كان المفكر الأمريكى اليسارى نعوم تشومكسى مصيبا ، حين ذكر قبل أسابيع بوضوح ، أنه لا فرصة لأى رئيس أمريكى مقبل فى استعادة الإجماع الوطنى ، وقد لا تخفى الأسباب التى قادت لتوقع تشومسكى، فقد ولدت الولايات المتحدة الأمريكية على تلال من المظالم الدموية ، بدأت بحرب إفناء الهنود الحمر سكان البلاد الأصليين ، وكان جورج واشنطن أول رؤساء أمريكا من ملاك العبيد الأفارقة ، ولم ينجح إبراهام لينكولن فى تحرير العبيد إلا ظاهريا ، وظلت مظلمة السود ممتدة بطول وعرض التاريخ الأمريكى قبل وبعد الحرب الأهلية ، وإلى أن صدرت قوانين المساواة المدنية أواخر ستينيات القرن العشرين ، لكن القوانين وحدها لا تصنع مجتمعا عادلا متفاهما ، وهو ما جعل السود الأمريكيين على أهبة التمرد دائما ، وفى مناسبات لن تكون آخرها واقعة مقتل الأسود جورج فلويد ، ولا الاستطراد فى مظاهرات وحركة “حياة السود مهمة” ، التى قد تعاود انتعاشها مع تغول حضور حركات تفوق العرق الأبيض ، خصوصا من تيار “الواسب” أى البيض الأنجلوساكسون البروتستانت ، وهم يعتبرون أنفسهم أصل التكوين الأمريكى بعد إفناء الهنود الحمر ، وقد داخلهم خوف متزايد من هجرات متنوعة لاحقة ، تهدد مكانتهم المميزة ، وتخلق مظلمة أخرى للبيض هذه المرة ، خصوصا غير الحاصلين على شهادات تأهيل جامعى وتكنولوجى ، وقد تضاءلت فرصهم بعد تحولات الاقتصاد الأمريكى فى العقود الثلاثة الأخيرة ، وتراجع الاقتصاد الإنتاجى العينى ، وتوسع رأسمالية المضاربات ، وهيمنة شركات التكنولوجيا ، وهجرة الشركات الأمريكية الأكبر إلى خارج الحدود ، وأيلولة مراكز صناعية كبرى إلى مدن أشباح ، وقد تكون من هؤلاء جمهور ترامب الأساسى ، مضافا إليهم جمهور واسع من الإنجيليين الأصوليين ، وكل هؤلاء متأهبون لاسترداد ما يتصورونه حقوقا ضاعت من أيديهم ، ويبدون شراسة وعنفا مضاعفا ، ولا يتردد الكثير منهم فى العودة لمناخ الحرب الأهلية القديمة ، خصوصا مع تدنى مكانة أمريكا الكونية ، وضعف قيمة الانتساب لأمريكا التى كانت “القوة العظمى” بألف ولام التعريف ، ثم تجد نفسها تصارع مع آخرين صاعدين بإطراد فى مجالات الاقتصاد والسلاح والتكنولوجيا ، ودونما أمل أكيد فى العودة إلى المجد الامبراطورى المتقادم المتزايل .
ومنذ نحو ثلاثين سنة ، تدافعت نبوءات تحلل أمريكا ، وكان أكثرها عمقا ، نبوءة المؤرخ الأمريكى من أصل بريطانى بول كينيدى ، وبالذات فى كتابه الأشهر “صعود وسقوط القوى العظمى” ، وركز فيه على توقع انحسار الإمبراطورية الأمريكية ، بسبب تراجع قوة اقتصادها ، وتدنى مقدرته على الوفاء بتكاليف السلاح الأمريكى المنتشر على رقعة عشرات البلدان ، وفى وقت مقارب لصدور كتاب كينيدى ، ظهر كتاب إلفن توفلر “الموجة الثالثة” ، الذى توقع انهيار الولايات المتحدة على طريقة ما جرى للاتحاد السوفيتى ، وتفككها إلى عدد من الدول المستقلة ، وكانت عينه وقتها على شرارة ثورات السود ، وقبل شهور ، عادت فكرة التفكيك نفسها إلى السطح ، ونشر المفكر الكندى “ويد ديفيس” مقالا مهما فى مجلة “رولينج ستون” الأمريكية ، ركز فيه على المظالم الاجتماعية المدمرة للنسيج الأمريكى ، وتفاقم ظاهرة انعدام المساواة ، التى نهشت عظام الطبقة الوسطى ، وأتاحت لواحد بالمئة من الأمريكيين وحدهم نحو 30 تريليون دولار ، مع تزايد عبء الدين الأمريكى العام ، ووصوله لأكثر من 27 تريليون دولار ، وقد يصعب حصر نبوءات التحلل والتفكك الأمريكى المتوقع ، وأغلبها يركز على الأثر الجوهرى لانحدار أرقام الاقتصاد وغياب العدالة ، فلا شئ يجمع الأمريكيين سوى حجم الناتج الاقتصادى ومعدلات النمو والدخل الفردى ، كما أكد مبكرا المؤرخ الأمريكى شليزنجر ، وإخفاق الاقتصاد يثير النزاعات التفكيكية ، وقد صارت تيارات الانفصالية فى أمريكا محسوسة أكثر فأكثر ، ليس فقط فى ولاية غنية جدا مثل “كاليفورنيا” ، التى صار البيض أقلية فيها ، بل فى “تكساس” وغيرها ، وانتشار حركات انفصال فى 15 ولاية ، وإلى حد دفع محللا فى “واشنطن بوست” ، أن يكتب مفزوعا عن سوء المصير الذى ينتظر أمريكا مع انتفاخ ظاهرة “الترامبية” ، وعودة أعلام الولايات الكونفدرالية التى كانت طرف الصدام الآخر فى الحرب الأهلية زمن لينكولن ، وقد ظهرت هذه الأعلام بكثافة فى غزوة الكونجرس الأخيرة ، وقبلها فى عام 2019 ، نشر مركز أبحاث “بيو” استطلاعا لآراء الأمريكيين ، كان سؤاله المحورى عن رؤيتهم لصورة أمريكا عام 2050 ، وكان غالب الآراء يشير لتوقع ضعف دور أمريكا فى الخارج مع تزايد مصاعبها الاقتصادية فى الداخل ، والمغزى أن أمريكا ربما تحتاج إلى قلب المصائر لا قلب نتائج الانتخابات ، وهذه معجزة تبدو مستحيلة ، فى زمن نهايات لا فى وقت معجزات .
Kandel2002@hotmail.com

اترك رد