“دفتر الخطايا” يتصفحه لنا عبد الحليم قنديل

0 338

نقرأ الماضى، لا لكى نعيش فيه، بل لنفهمه، ونستوعب عظاته ودروسه، ولا نكرر خطاياه بالذات.
هذه حكمة قديمة، ينساها أغلبنا ، حين يحول الحول، وتزداد وطأة ما نحن فيه من مآسى، فيزيد ميلنا للعيش فى الماضى، والتلهى عن عثرات الحاضر، الذى يبدو أسوأ بامتياز، برغم أن الحقيقة قد لا تكون دائما كذلك.
مناسبة تذكر الحكمة القديمة الجديدة، هى ما تمر به القضية الفلسطينية اليوم، وسيول المراثى التى تكاد تنعى قضية الشعب الفلسطينى، وتحدثك عن تصفية نهائية للحق الفلسطينى، مع ما تسمى خطة ترامب، وعزم حكومة العدو ضم المستوطنات والأغوار وشمال البحر الميت، وانعدام فرصة إقامة الدولة الفلسطينية المجتزأة على الأراضى المحتلة فى حرب 1967.
والقضية الفلسطينية لم تنشأ اليوم طبعا، فقد عبرت من قرن إلى قرن، ومنذ وعد بلفور عام 1917، لم يتوقف الكفاح الفلسطينى فى مئة سنة وتزيد، وتوالت انتفاضاته ضد الاحتلال البريطانى والاستيطان اليهودى، التى لم تحل فى النهاية دون وقوع نكبة 1948، واحتلال غالب فلسطين، وإنشاء كيان الاغتصاب الإسرائيلى، وطرد ثمانمائة ألف فلسطينى من ديارهم، صاروا مع تناسلهم فى الشتات نحو ستة ملايين اليوم، بينما تبقى العدد الأكبر من الفلسطينيين داخل فلسطين، التى صارت محتلة بكاملها بعد حرب 1967، ولكن من دون أن يحدث التفريغ السكانى الذى أوحت به كوارث النكبة، فقد بذلت الصهيونية كل ما تستطيعه من جهد، وبالتحالف الوثيق مع مراكز قيادة الغرب الاستعمارى فى لندن وباريس، ثم بالإندماج الاستراتيجى مع واشنطن مركز القيادة الغربية الإمبريالية بعد الحرب الكبرى الثانية، وجرى التهجير الواسع لليهود إلى فلسطين على موجات، كان آخرها تأثيراً موجة تهجير ما عُرف طويلاً بإسم “اليهود السوفييت” ، وكانت تلك آخر دفقة دماء كبرى للإستيطان الصهيونى فى فلسطين، لكن الهدف المعلن للصهيونية لم يتحقق فى النهاية، فلم تصبح فلسطين وطنا خالصاً لليهود المستجلبين، برغم الفروق المرعبة فى القوة العسكرية لصالح إسرائيل، المسلحة حتى الأسنان النووية، ولسبب ظاهر، هو أن الشعب الفلسطينى الأصلى صار أكبر عدداً اليوم على أرضه التاريخية ( 50.9 % )، بينما يتراجع “الشعب الإسرئيلى” المفتعل بإطراد إلى وضع الأقلية السكانية ( 49.1% )، خصوصاً مع نضوب مخازن التهجير اليهودى لإستيطان فلسطين، فلم تعد فى العالم كتلة يهودية كبرى خارج كيان الإحتلال ، سوى حالة اليهود فى أمريكا، وهؤلاء لا يريدون الذهاب إلى فلسطين، ويكتفون بدعم “إسرائيلهم” عبر دفاتر الشيكات، أو تطويع دور صانع القرار فى واشنطن لصالح دولة الاحتلال، على طريقة إنخراط ترامب فى منح القدس والضفة، ومن قبلهما الجولان لإسرائيل، بقرارات الضم الأبدى .
والمعنى بإختصار، وبعيداً عن زحام العواطف، أن تصفية القضية الفلسطينية لم تعد ممكنة، وهذا هو درس الماضى وعظة التاريخ الأولى ، فإسرائيل كيان استعمارى استيطانى إحلالى ، ولم تنجح أبدا عملية ثبات ودوام أى كيان استيطانى ، إلا إذا نجح فى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين ، أو خفض عددهم إلى أدنى حد ، وعلى طريقة ما جرى فى الاستيطان الأوروبى الاستعمارى للأمريكتين واستراليا ، بينما لم ينجح الاستعمار الاستيطانى فى حالتى الجزائر وجنوب أفريقيا ، صحيح أن المحاولة دامت فى الجزائر على مدى 130 سنة ، لكنها فشلت فى النهاية ، وبعد تضحيات عظمى من أهل الجزائر الأصليين ، قدموا فيها ما قد يصل إلى المليون ونصف المليون شهيد ، أنهت غزوة “فرنسة” الجزائر ، وهو ذاته ما جرى بطرق أخرى فى جنوب أفريقيا ، وعبرة التاريخ ودروسه تقول ، أن ذلك عينه هو ما سيجرى فى فلسطين بإذنه تعالى ، ربما مع إكمال كيان الاحتلال لعامه المئة ، برغم اختلاف ظروف حالة الجزائر عن حالة جنوب أفريقيا ، واختلاف السياق المصاحب فى الحالتين عن الحالة الفلسطينية الراهنة ، التى تمتاز بثبات كتلة الشعب الفلسطينى الغالبة فوق أرضه المقدسة ، وبحيوية متزايدة للفلسطينيين ، الأفضل تعلما بين شعوب أمتهم العربية ، فقد خلقتهم المحنة الفريدة خلقا جديداً، وإستعاضوا عن نزيفهم السكانى مع الطرد الأول، وصاروا تسعة أمثال عددهم الذى كان وقت النكبة الأولى .
وقد يقال لك، وما جدوى التفوق العددى الفلسطينى، إذا كانت الأرض تسحب من تحت أقدام الفلسطينيين بالضم والقضم والتهويد ، وهذه نقطة اعتراض تبدو وجيهة لأول وهلة، والجواب المضاد عليها ، أن الفلسطينيين منتشرون بنسب متفاوتة فى أغلب الأقاليم الطبيعية لفلسطين المحتلة بكاملها، مع فك الأقواس المصطنعة ، من نوع “الخط الأخضر” و”الجدار العازل” ، أو المحاولة الصهيونية لوضع الفلسطينيين فى كانتونات فصل عنصرى ، على طريقة ما كان يجرى فى جنوب أفريقيا ، وهنا قد يصح الالتفات إلى دفتر الخطايا التى تضعف القوة الصراعية للفلسطينيين ، وقد جرى أخطرها فى الماضى القريب ، وبالذات فى العقود الأربعة الأخيرة ، منذ إعلان المجلس الوطنى الفلسطينى فى الجزائر عام 1988 ، الذى قضى بالاعتراف النهائى بدولة إسرائيل ، مقابل إقامة دولة فلسطينية فى غزة والضفة عاصمتها القدس الشرقية ، أى على مساحة الخمس من فلسطين المحتلة بكاملها ، وما تبعه من اتفاقات أوسلو وأخواتها ، التى أقامت سلطة افتراضية ، لها عمليا أقل من صلاحيات سلطة حكم ذاتى ، ولبعض السكان دون كل الأرض ، ورفعت عن كاهل سلطة الاحتلال كل الأعباء المنهكة ، ووفرت لدولة العدو احتلالا منخفض التكلفة ، وربما بالمجان ، وعقودا من الهدوء النسبى ، زادت من تغول الاستيطان اليهودى أضعافا فى القدس والضفة الغربية بالذات ، بينما انقرض الاستيطان اليهودى فى غزة بدواعى وأفضال وعواقب انتفاضة 2000، التى عملت السلطة الفلسطينية الرسمية على منع تكرارها، والتورط فى خطايا التنسيق الأمنى، ومطاردة الخلايا الفدائية ، وقد لا يكون اليوم هو وقت العتاب والمؤاخذة ، فقد اقتنعت السلطة نفسها أنها كانت تطارد سرابا ، وأعلن الرئيس محمود عباس عن إلغاء الاتفاقات كلها ، وإن كانت المراجعة لم تكتمل ، فقد ظلت السلطة نفسها موجودة ، وهى وليدة اتفاقات السراب ، ووجودها قيد متصل على حركة الشعب الفلسطينى ، بينما تملك الحركة الوطنية الفلسطينية أن تحيى منظمة التحرير ، وتعيدها إلى وضعها الأصلى كممثل شرعى جامع للشعب الفلسطينى ، وتلغى خطيئة الاعتراف بأى “شرعية” لوجود إسرائيل الراهنة ، وتعيد دمج فلسطينيى الداخل الإسرائيلى مع فلسطينيى الشتات فى صلب القضية ، وبالطرق المناسبة لكل قطاع ، فالقضية الفلسطينية ليست محصورة بأهل غزة والضفة كما أوحت أوسلو وتوابعها ، والانتقال من التضييق إلى الاتساع الفلسطينى الرحب ، هو الذى يسمح بترجمة التفوق العددى الفلسطينى إلى تفوق كفاحى طويل المدى ، وعلى أساس مبدأ الدولة الديمقراطية الواحدة فى فلسطين بكاملها ، وقد كان هو المبدأ الأول لحركة فتح فى ظهورها الأول ، مع انطلاق رصاصة العاصفة الأولى فى الأول من يناير 1965 ، وقبل أن تزحف خطايا البرنامج المرحلى فى 1974 بالاعتراف بقرارى مجلس الأمن الشهيرين 242 و 338، وصولا إلى ما أسمى عرفا بإعلان الاستقلال الفلسطينى والاعتراف بشرعية إسرائيل (!) .
وبوضوح ، فقد لا يصح أن ينسحب ظل الماضى على مستقبل القضية الفلسطينية ، ولا أن يظل الفلسطينيون أسرى لأوهام أوسلو ، وما سبقها وتلاها من ترتيبات مراوغة مهلكة ، كادت تنزع عن الشعب الفلسطينى جوهر قضيته فى التحرير الوطنى ، ونقطة البدء هى الوعى بالعظات ، وتجنب تكرار الخطايا ، فليس صحيحا أن القضية تخسر بالكفاح المسلح كما روجوا ، فالكفاح المسلح هو الذى بلور الهوية الوطنية الجديدة الجامعة للشعب الفلسطينى ، وليس صحيحا أن الشعب الفلسطينى لا يقدر على انتفاضة جديدة ، ولا هو صحيح أن السلام ومفاوضاته هى الطريق ، وأن العمل الدبلوماسى الدولى هو الخيار الوحيد المتبقى ، وهذه أفكار أثبت الواقع الفلسطينى الحاضر بؤسها العظيم ، فهى لا تقود سوى إلى الطرق المسدودة ، التى تستهلك الطاقة وتزور الوجدان ، وما على من بيدهم الأمر الفلسطينى فيما نظن ، سوى أن يتركوا القضية لشعبها على امتداد خرائط تواجده فوق أرضه المحتلة كلها ، وفى خبرة كفاح الشعب الفلسطينى متسع للكثير ، من الانتفاضات الشعبية السلمية ، إلى التعبئة السياسية المنتظمة ، إلى إفساح المجال لأجيال جديدة عفية، تبدع صيغ الكفاح الشعبى فى كل الأوقات ، وتدرك جدوى الكفاح الديمقراطى، واستثمار التناقضات فى كيان دولة الاحتلال ، وجدوى الكفاح المسلح فى مواقع وأوقات وعلى خطوط بعينها ، مع الثبات المتصل على الأرض المقدسة ، وتحويل التفوق العددى المتزايد إلى أغلبية فلسطينية كاسحة فى دولة المستقبل المحرر من تحكم الفاشية الصهيونية

اترك رد