عبدالحليم قنديل”كى تنتصر فلسطين”

0 491

“كى تنتصر فلسطين”

اخبار مشابهة
1 من 50

بقلم/ المفكر والكاتب
عبد الحليم قنديل

لا بأس بكسب رفض عربى ودولى للخطة الإسرائيلية الأمريكية المعروفة اختصارا باسم “صفقة القرن” ، وقد فعلها وزراء الخارجية العرب فى اجتماع الجامعة الأخير بالقاهرة ، وبلغة بدت أكثر وضوحا من النمط البليد المعتاد لبيانات الجامعة العربية ، وقد تفعلها القمة العربية المقبلة ، وكذا القمة الأفريقية المنتظرة قبلها ، وفعلها اجتماع “منظمة التعاون الإسلامى” التى تضم 57 دولة ، وقد تفعلها اجتماعات مماثلة لمجموعة (77 زا ئد الصين) ، إضافة لإثارة القضية فى مجلس الأمن الدولى ، والخطاب المتوقع للرئيس الفلسطينى محمود عباس أمامه ، وإن كان مستبعدا بالطبع ، أن يصدر قرار مواتى للمطامح الفلسطينية عن مجلس الأمن ، فالفيتو الأمريكى جاهز لرفض الرفض الدولى .
وكل هذا مطلوب ومقدر ، ويدخل فى باب الدعاية والعمل الدبلوماسى ، وجلب تضامن لفظى مع قضية الشعب الفلسطينى ، قد لا يقدم ولا يؤخر ، فالأقدار تكتبها حركة الوقائع على الأرض ، والحقوق لا تستعاد بغير قوة تسندها ، وليس بالبيانات والقرارات التى يجف حبرها فوق الورق ، مهما تكررت مرات استظهارها من جديد ، ومهما جرى التشديد على السعى إلى سلام ، لا يتحقق فى غيبة تعديل جذرى بموازين القوى ، لا تجدى أى مفاوضات بدونه ، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة ، وبوساطة أمريكا الراعية لإسرائيل ، أو بوساطة مظلة دولية متعددة الأطراف ، تفضلها السلطة الفلسطينية اليوم .
وليس صحيحا أبدا ، أن الفلسطينيين أضاعوا أى فرصة سلام ، ولا أى طرح يعيد اليهم الحد الأدنى من الحقوق ، فقرار التقسيم الذى صدر عن الأمم المتحدة أواخر 1947 ، جرى تجاوزه بالقوة الصهيونية قبل أن يجف مداده ، وقرار 242 الذى صدر عقب عدوان 1967 ، أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية قبوله بوضوح فى العام 1974 ، وعلى قاعدة ما أسمته وقتها بالحل المرحلى ، ثم جعلته حلا نهائيا فى اجتماع المجلس الوطنى عام 1988 ، وأصدرت وقتها ما أسمته “إعلان الاستقلال الفلسطينى” ، والاكتفاء بدولة فلسطينية فى الضفة وغزة والقدس المحتلة فى 1967 ، ثم قبلت ما طرح عليها من المشاركة فى “مؤتمر مدريد للسلام” ، وأدارت بالتوازى مفاوضات مباشرة سرية فى العاصمة النرويجية “أوسلو” ، ودخلت فى متاهة مفاوضات ، استمرت على مدى يقارب ربع قرن ، ودخلت فى مفاوضات “كامب ديفيد الثانية” بوساطة رئاسية أمريكية ، ولم يتزحزح الوضع للأفضل ، بل زادت عمليات الاستيطان اليهودى أضعافا ، وتوحشت عملية تهويد القدس المحتلة ، وفرض الأمر الواقع الذى بدأت به خديعة أوسلو أواخر 1993 ، وقضم الأرض التى تصورها الفلسطينيون أساسا لدولتهم ، وقصر حضور السلطة الفلسطينية على ما وصف بالمنطقة (ا) فى اتفاق أوسلو ، ووضع المنطقتين (ب) و (ج) تحت السيطرة الإسرائيلية الاحتلالية المباشرة ، ومن دون تحقق وعود أوسلو الأولى ، ولا قيام الدولة الفلسطينية التى كانت منتظرة فى العام 1999 ، وعلى 22% فقط من مساحة فلسطين المحتلة بكاملها ، مرت بعدها عشرون سنة وتزيد ، ومن دون أن يكون المطروح بالتفاوض على الفلسطينيين ، شيئا أقل كارثية من خطة ترامب الإسرائيلية ، والمعنى بسيط وظاهر ، وهو أن المفاوضات والمبادرات لم تصل إلى شئ إيجابى يذكر ، ولو عند سقف الحد الأدنى ، ربما باستثناء الوضع فى قطاع غزة المحاصر من سنوات ، والذى جلت عنه قوات الاحتلال من طرف واحد أواسط العقد الأول من القرن الجارى ، ليس بطريق المفاوضات من أى نوع ، بل بالمقاومة المسلحة والجماهيرية وحدها ، فى غمار الانتفاضة الفلسطينية المعاصرة الثانية ، التى تفجرت بدورها بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية .
والمعنى مجددا ، أن الفلسطينيين المتنفذين لم يضيعوا أى فرصة سلام ، بل ضاعوا بسبب أوهام السلام بالذات ، وأضاعوا نصف عمر قضيتهم تقريبا ، جريا فى متاهات المفاوضات ، وبالذات فى زمن متاهة أوسلو الممتدة لنحو ثلاثين سنة إلى الآن ، وتحقق فيهم قول الشاعر الفلسطينى العربى المرموق محمود درويش ، حين استقال من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير احتجاجا على سلام “أوسلو” ، وانتقد فى خطاب استقالته “هذا السلام الذى سيتركنا حفنة غبار” ، وقد كان ذلك هو أخطر ما ترتب على أوسلو ، فإضافة لمتاهة الخرائط ، التى قضمت فيها إسرائيل أهم المناطق المحتلة بعد عدوان 1967 ، دخل الفلسطينيون فى متاهة أخرى ، عزلت أغلبهم ، عن حرارة الشعور بحقيقة القضية ، وكونها قضية تحرير وطنى ، الأساس فيها هو حق المقاومة المشروعة بكافة صنوفها ، وليس انتظار أنباء جولات التفاوض السرى والعلنى ، التى لم تأت أبدا بشئ مما تشتهيه النفس الفلسطينية ، وباستثناء غزة كما قلنا ، التى جلت عنها إسرائيل بطريق المقاومة وحده ، ودخلت فى ثلاثة حروب طاحنة مع جيش الاحتلال الإسرائيلى ، لم ينجح كيان الاحتلال فى كسب أى منها ، تماما كما انسحب من الجنوب اللبنانى مدحورا ، ومن دون توقيع اتفاق سلام ولا صك تطبيع .
والمحصلة فيما جرى ، ليست جديدة فى مغزاها ، بل هى خلاصة خبرة كل الشعوب التى تعرضت للاحتلال ، أيا كان نوعه ، وحتى فى حالات الاستعمار الإستيطانى الإحلالى ، كالذى تعرضت وتتعرض له فلسطين المحتلة ، كانت المقاومة الجماهيرية والمسلحة المثابرة ، هى الطريق الأساسى للنصر ، فقبل مفاوضات استقلال الجزائر مثلا ، بعد احتلال استيطانى فرنسى ابتليت به الجزائر لمدة 130 سنة ، كان الشعب الجزائرى المقاوم على موجات ، قد قدم ما يزيد على المليون ونصف المليون شهيد فى حروب المقاومة ، والقاعدة الذهبية فى سجال المقاومة والاحتلال ، أن الاحتلال لا يزول ولا ينكسر ، إلا إذا زادت تكلفة الاحتلال على عوائد بقائه ، وهو ما ينطبق بالبداهة على الوضع الفلسطينى ، الذى أضاعوا بوصلته فى متاهات أوسلو وما تلاها ، وجعلوا الفلسطينيين يدفعون تكلفة الاحتلال بالوكالة عن العدو ، وإلى أن انتهينا إلى حقيقة لا تدحض ، هى أن هدف إقامة دولة فلسطينية فى الضفة والقدس وغزة ، لم يعد وارد التحقق فى المدى المنظور ، بمفاوضات من أى نوع ، وهو ما يعنى ضرورة مراجعة المسار كله ، وطى صفحة أوسلو ومضاعفاتها ، وسحب الاعتراف بكيان الاحتلال الإسرائيلى ، وحل السلطة الفلسطينية بطابعها الوظيفى الخادم موضوعيا للاحتلال ، وقد قيل أن الرئيس عباس هدد خطيا بوقف خطيئة التنسيق الأمنى مع كيان الاحتلال ، وبدأت عمليات صحوة مقاومة فى الضفة والقدس ، ونأمل أن يكون ذلك طريقا نهائيا ، وأن يجرى إحياء منظمة التحرير الفلسطينية ، وضم حركتى “حماس” و “الجهاد الإسلامى” إليها ، ووقف خطايا الانقسام المهين بين سلطتى “رام الله” و “غزة” ، والتركيز كليا على خط المقاومة المسلحة الشعبية الجماهيرية السلمية ، والعودة إلى خطة الرصاصة الأولى فى أواسط ستينيات القرن العشرين ، وتطليق “حل الدولتين” الموهوم العبثى ، والعودة إلى هدف التحرير الكامل ، وإقامة دولة واحدة ديمقراطية على كامل أرض فلسطين التاريخية ، فقد صمد الفلسطينيون فوق أرضهم المقدسة ، وأنجب الشعب الفلسطينى شعبا جديدا عفيا ، وصار عدد الفلسطينيين اليوم فوق أرضهم المقدسة ، أكثر من عدد اليهود المجلوبين للاستيطان الاستعمارى ، صار عدد الفلسطينيين فوق ستة ملايين وسبعمائة ألف اليوم ، بينما عدد يهود الاحتلال عند رقم الستة ملايين ونصف المليون ، ولم تعد هناك مخازن بشرية جاهزة لرفد كيان الاحتلال بمدد جديد ، فوق أن الفلسطينيين فى الوطن ومنافى اللجوء صاروا أكثر من عدد اليهود فى الدنيا كلها ، والمعنى ظاهر ، وهو أن شعبا فلسطينيا عفيا متكاثرا فوق أرضه ، قادر على رفد خطوط المقاومة بمدد لا ينفد، وقد لا تمر ثلاثون سنة مقبلة ، حتى يصبح الفلسطينيون فوق أرضهم أغلبية ساحقة ، ليس بوسع أحد سحقها أو تهجيرها من جديد ، خاصة أن الشعب الفلسطينى أفضل الشعوب العربية تعليما ، وتاريخه الكفاحى حافل بالتضحيات ، وبوسعه تقديم مئات الآلاف المضافة من الشهداء ، فى طريق المقاومة الشاملة ، الذى لا طريق غيره ، لنيل كامل الحقوق ، وعلى مراحل ، فى صراع طويل الأمد بطبعه ، يعيد النجوم إلى مداراتها الأصلية ، ولا ينهك حيوية الشعب الفلسطينى بتقسيمه جغرافيا ، ولا يعود به إلى متاهة “حل الدولتين” ، والتى لا يقود إدمان التفاوض حوله اليوم ، وفى هذه الظروف ، سوى إلى تقزيم “حل الدولتين” المتقزم بالخلقة .
نعم ، ليس السلام إياه هو الخيار الاستراتيجى ، بل المقاومة الشاملة هى الخيار الاستراتيجى ، فهى التى تغير وتعدل موازين القوى على الأرض ، وهى التى تزيد تكلفة الاحتلال دما ومالا على جدوى بقائه ، وهى التى ترغم الاحتلال ـ أى احتلال ـ على التسليم بالحقوق ، وتفتح أفقا للوصول إلى هدف الدولة الديمقراطية الواحدة ذات الأكثرية الفلسطينية الحاسمة …

اترك رد