“فلسطين بطبعة إيرانية” بقلم/ عبدالحليم قنديل

0 44

قد لا يكون العنصر الحاسم فى مستقبل قضية فلسطين ، أن تتورط دول عربية أو اسلامية مضافة فى خطايا التطبيع العادى أو “الإبراهيمى” مع كيان الاحتلال الإسرائيلى ، فلم يعد لدولة عربية ـ للأسف ـ من دور جوهرى داخل فلسطين المحتلة ، اللهم إلا بمعونات موسمية لطرف أو لآخر ، أو فى تدخلات دبلوماسية وأمنية مفرقة مأذون بها أمريكيا وإسرائيليا ، فيما صار الخصم الميدانى المباشر للكيان هو “إيران” ، التى ربما توظف الموضوع الفلسطينى لصالحها ومصالحها الذاتية ، عبر جولات عض الأصابع ، فإيران هى الوحيدة ـ للأسف ـ التى تقدم دعما ماليا وعسكريا مباشرا للمقاومة ، وتتقدم إلى مكانة “الرقم الصعب” فى المعادلة كلها ، إما بعلاقاتها الوثيقة مع جماعات “الجهاد الإسلامى” و”حماس” وغيرها ، أو من خلال “حزب الله ” إيرانى النزعة ، الذى يمد ذراعه الطويلة داخل فلسطين ، ويعتز بترسانته الحربية والصاروخية الهائلة ، ويقوم بتدريب وتطوير خبرات فصائل فلسطينية مقاومة ، ولا تخشى إسرائيل سواه فى كل المشرق العربى .
وقد لا تكون القصة وليدة اللحظة ، ولا بمناسبة إتهامات “بنيامين نتنياهو” رئيس وزراء العدو ، الذى قال أن “إيران” هى التى تحارب كيان الاحتلال حاليا فى الضفة الغربية والقدس ، وتلك اتهامات تتجاوز الوقائع الملموسة وحقائقها ، وكلها تؤكد أن انتفاضة الضفة الجارية من صنع الشعب الفلسطينى أساسا ، وبهدف تحرير أرضه ، وأن جيش الاحتلال يصادف واقعا لم يألفه منذ عشرين سنة ، أى منذ عملية “السور الواقى” ، التى قادها الجنرال “إرييل شارون” عام 2002 ، وترافقت مع إنشاء “الجدار الفاصل” بين أراضى فلسطين المحتلة عام 1948 والأراضى المحتلة فى عدوان 1967 ، ولم يهمد كفاح الشعب الفلسطينى فى أى وقت ، لكنه شهد تطورا نوعيا ممتازا فى السنوات الأخيرة ، وبالذات منذ حرب “سيف القدس” أواسط 2021 ، التى ألغت مسافات الانعزال وجدرانه بين الفلسطينيين فى ساحات الداخل كلها ، وجعلت “وحدة الساحات” أمرا واقعا قابلا للتطور باستمرار، وجذبت إلى الميدان قطاعات كبرى من الفلسطينيين فى الأراضى المحتلة بنكبة 1948 ، ووحدت قضية الشعب الفلسطينى من جديد ، وأعادتها إلى سيرتها الأولى ، وقد كانت تلك نبوءة ، حذر منها “شارون” نفسه قبل ضياعه فى غيبوبة الموت الطويلة ، حين قال بعد عملية “السور الواقى” بفظائعها الإجرامية الوحشية ، أننا ـ أى الكيان ـ عدنا مجددا إلى نقطة البدء فى حرب 1948 ، وبعد عشرين سنة ، بدت الصورة ذاهبة لاكتمال فريد ، فأحدث بيانات “مركز الإحصاء الفلسطينى” صدر عشية حلول الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة فى 14 مايو 2023 ، وقال بوضوح رقمى ، أن عدد الفلسطينيين تزايد بعشر مرات عما كان عليه عام 1948 ، وأن العدد يزيد اليوم على 14 مليونا و 300 ألف فلسطينى ، جرى تهجير نصفهم إلى بلدان الشتات ، وبقى نحو النصف مقيما داخل فلسطين التاريخية ، بينهم أكثر من مليون و700 ألفا فى أراضى 1948 ، وأن نسبة الفلسطينيين بلغت 50.1 % من مجموع المقيمين على أراضى الوطن الأصلى ، بمساحته البالغة 27 ألف كيلومتر مربع ، فيما تراجعت نسبة اليهود المجلوبين للاستيطان إلى 49.9% من المجموع ، وثمة تقديرات إحصائية أخرى ، تزيد نسبة الفلسطينيين ، لكن الثابت فى كل الأحوال ، أن الصمود الفلسطينى ولد شعبا آخر متكاثرا عفيا ، لم تزده المحنة الفريدة إلا صلابة وتصميما وابتكارا لوسائل كفاح ، برغم كل الظروف المعيقة ، وبرغم الاختلال السياسى الفلسطينى وانقساماته ، وبرغم انهيارات اتفاق أوسلو ـ 1994 ـ ووعوده الزائفة ، التى ذهبت بقضية فلسطين إلى متاهات ضيعت أجيالا ، وزادت كثافة الاستيطان اليهودى فى الضفة الغربية والقدس إلى نحو المليون شخص ، لكنها ـ أى “أوسلو” وتوابعها ـ لم تفقد الشعب الفلسطينى حيويته ، التى قادت الانتفاضة الثانية عام 2000 لنحو ست سنوات ، بدت فيها تضحيات الشعب الفلسطينى ودماؤه المراقة غزيرة ، لكنها أسقطت ما يزيد على ألف قتيل “إسرائيلى” إضافة لعشرين ألفا من المصابين ، وكانت نتائج الانتفاضة الثانية ملموسة باليد والعين المجردة ، فقد أرغمت كيان الاحتلال على اتخاذ قرار الجلاء من طرف واحد عن قطاع غزة ، وتفكيك المستوطنات اليهودية السبع فيه ، وكان التحرير النسبى لقطاع غزة ، هو المعين الجوهرى فى إقامة قاعدة متطورة للمقاومة الفلسطينية المسلحة ، أدارت حروبا ضروسا طويلة مع كيان الاحتلال ، لم تهزم فيها غزة المحاصرة أبدا ، وبعد انقطاع طويل المدى كفاحيا بين غزة والضفة ، كان التطور الجديد الأخطر على مصير الاحتلال ، وهو زرع وترسيخ قاعدة صلبة لانتفاضة الضفة المتوالية فصولها ، كانت مدن شمال الضفة فى “جنين” و”نابلس” و”طولكرم” أبرز مواردها ، وكانت وتكون المخيمات بالذات وقودها ، من “مخيم جنين” الأشهر إلى مخيم “نور شمس” فى طولكرم ، إلى “نابلس” القديمة الراقدة فى حضن جبالها ، وفى الضفة الغربية نحو 24 مخيما ، هى خزانة القضية منذ بدأت ، ونحو 800 ألف لاجئ للضفة من فلسطين التاريخية كلها ، وتمضى شعلة نار الانتفاضة الجديدة من الشمال إلى الجنوب ، وعبر بلدة “حوارة” البطلة الأسطورية فى الوسط ، ولا تعد صور التنكيل والقتل والأسر اليومى جديدة على حياة الفلسطينيين فى الضفة والقدس ، فهم قاسوها فى أوقات الهدوء النسبى ، ويقاسونها أكثر فى السنوات الثلاث الأخيرة ، وبالذات مع إعلان العدو عزمه على ضم الضفة بكاملها بعد ضم القدس ، ورفض إقامة أى دولة فلسطينية ، وإشهار مقولة “الحل النهائى” بسحق وطرد كل الفلسطينيين ، خصوصا مع حكومة المجرمين وأرباب السوابق من غلاة “الصهيونية التوارتية” ، كل هذا يحدث ويتغول نعم ، لكن الشعب الفلسطينى الذى يلاقونه هذه المرة مختلف ، كفر بكل اتفاقات “أوسلو” والتنسيق الأمنى ، وحزم رأيه فى اتجاه المقاومة ، التى صارت خيارا بلا بديل ، مدعوما بأجيال جديدة من الفلسطينيين علمتها المحن الداهسة فنون المقاومة ، وجعلت جماعات المقاومة التلقائية تتزايد ، من “عرين الأسود” فى “نابلس” إلى غيرها ، وفى كل مراكز شمال الضفة الأقرب جغرافيا إلى قلب فلسطين التاريخية ، وخصوصا فى “جنين” ، التى صارت عاصمة الحلم الفلسطينى الجامع ، وتداخلت فيها صور المقاومة المنظمة والمقاومة التلقائية ، وتبدو اليوم كأنها “غزة الجديدة” ، حيث تتواصل خبرات المقاومين ، وتنشأ قواعد تطوير الأسلحة ذاتيا ومحليا ، وتكبد العدو خسائر ملموسة فى الأفراد والمعدات ، وتبدع فى صنع العبوات الناسفة ، وحتى الطائرات المسيرة ، وتتجاوب مباشرة مع حس الشارع الفلسطينى ، الذى صدمته مؤخرا واقعة إجبار نساء “الخليل” على خلع ملابسهن والتعرى بالكامل أمام أطفالهن تحت التهديد بنهش الكلاب البوليسية ، والواقعة المريعة لها سوابق كثيرة ، لكن الجديد هذه المرة ، أنها لن تمر بلا حساب دموى ، فقد نجحت المقاومة الجديدة فى قتل 35 جنديا ومستوطنا إسرائيليا خلال شهور العام الجارى ، ونزف الدم وحده ، هو الذى يجبر المحتلين على التراجع ، وعلى دفع أثمان مكلفة لبقاء الاحتلال ، وفى اللحظة التى تزيد فيها تكلفة الاحتلال على فوائد بقائه ، يقرر الاحتلال أن يرحل ويجلو كما فعل فى “غزة” ، ولا شئ يقرب هذه اللحظة سوى المقاومة وحدها ، وليس اللجوء لمناشدات فارغة ، تستحث ما يسمى “المجتمع الدولى” المتواطئ الداعم لكيان الاحتلال ، أو ترجو عون جامعة دول عربية فاقدة لروح الحياة والنخوة والحضور المؤثر فى تفاعلات التاريخ الجارى .
نعم ، الإنتفاضة الجديدة من صنع الفلسطينيين وفصائلهم وأجيالهم الجديدة ، لكنهم لا يلقون من أغلب النظم العربية للأسف ، سوى طعنات “التطبيع” الغائرة فى ظهورهم ، ولا يجدون حتى من دول العالم الإسلامى ، دعما يجاوز “مصمصات” الشفاه ، ربما باستثناء “إيران” ، التى قد تكون لها مآربها الذاتية فى استثمار الموضوع الفلسطينى ، وتجيير قوة الكفاح الفلسطينى لدعم مصالحها فى “الاتفاق النووى” وغيره ، أو فى ترسيخ نفوذها المتفشى المتوحش فى الشرق العربى والخليج ، خصوصا بعد كسبها لثمار التهدئة بالاتفاق “الصينى” مع السعودية ، وهى تريد أن تغير الصورة الأصلية للصراع ، وأن تجعل ما كنا نسميه صراعا عربيا ـ إسرائيليا صراعا إيرانيا ـ إسرائيليا ، وقد نزعم أنها نجحت إلى حد كبير ، ليس بسبب إقدامها ، بل بسبب تراجع العرب ، وإخلاءهم لمواقعهم الطبيعية ، وذهابهم فرادى وجماعات إلى المعسكر الآخر ، وتفانى بعضهم فى خدمة كيان الاحتلال ، والاكتفاء بترديد وعزف اسطوانات مشروخة عن التضامن مع الفلسطينيين العرب ، بينما تركوا واجب خدمة قضية فلسطين لآخرين ، لا يلومهم أحد عاقل إن فعلوا ، وأيا ما كانت النوايا والمقاصد ، وعلى طريقة النظام الإيرانى ، الذى يبدو “عربيا” بأكثر من أى نظام عربى ، وبالذات فى إعلان نصرة الشعب الفلسطينى.

اترك رد