حرب أوكرانيا كلها جرى اختصارها فى “باخموت”، التى اكتسبت اسمها حديثا فى عام 2016، وكان اسمها السابق “أرتيموفسك” الذى تتمسك به روسيا، ومنذ ستة شهور وأكثر، تلاحقت صدامات على جبهة المدينة الشهيرة بمناجم الملح، زادت حدتها فى الشهرين الأخيرين، بعد لجوء القوات الروسية بأوكرانيا إلى إعادة تنظيم شاملة، وإعادة رسم خطوط الجبهة بانسحاب منظم من غرب “خيرسون” على نهر “دنيبرو”، والتركيز على إكمال السيطرة على مقاطعة “دونيتسك”، مع جوارها فى مقاطعة “لوجانسك”، والمقاطعتان معا تشكلان إقليم “الدونباس” الأغنى بثرواته ومعادنه وصناعاته، ودارت فيه الحروب الأهلية سجالا منذ عام 2014 ، الذى شهد انقلابا مدعوما من الغرب على الرئيس الأوكرانى المنتخب وقتها “فيكتور يانوكوفيتش”، وقد بدأ سيرته السياسية كحاكم لمقاطعة “دونيتسك” عام 1997، وشغل منصب رئيس وزراء أوكرانيا لمرتين، وكان حزبه “الأقاليم” أكبر الأحزاب الأوكرانية، وفى ذروة مظاهرات تحولت إلى صدام دموى فى “كييف”، أنقذته روسيا من القتل، ونقلته من قصره الرئاسى فى “كييف” إلى موسكو يوم 22 فبراير 2014 ، ثم ضمت “شبه جزيرة القرم” فى هجوم خاطف سبقه استفتاء، ثم تطورت الحوادث إلى ما تسميه روسيا بالعملية العسكرية الخاصة التى بدأت فى 24 فبراير 2022، وإلى تموجاتها بين صعود وهبوط، وإلى افتتاح عامها الثانى بالعودة إلى “دونيتسك” مسقط رأس حليفها “يانوكوفيتش”، الذى تصدر عنه أحيانا تصريحات تطالب باتفاق سلام .
وعلى خط صدام عسكرى ممتد إلى ما يزيد على ألف كيلومتر، بدا كأن الحرب جرى اختزال أخبارها فيما يجرى بمدينة “باخموت”، وكأن المصائر كلها معلقة بمصيرها، برغم أن “باخموت” ليست مدينة كبرى، لكن التقدم الروسى فيها، وفى بلدات أصغر إلى جوارها ، سقطت أغلبها بيد الروس، ولم يعد سوى تتويج القتال، وإعلان السيطرة الكاملة على “باخموت”، المطوقة من كل جهاتها، مع ترك منفذ وحيد مفتوح إلى الجنوب الغربى لانسحاب القوات الأوكرانية، التى جرى إنهاكها فى المصيدة، ولم يعد واردا عندها، أن تستعيد السيطرة على ما فقدته فى الأحياء الشمالية والشرقية، وبات وسط “باخموت” على بعد مئات الأمتار فقط من قوات المشاة الروسية ومقاتلى جماعة “فاجنر”، والمشهد الختامى على مقربة أيام، يعلن بعدها سقوط المدينة، التى صورها الجانب الأوكرانى وحلفاؤه الغربيون، كأنها قلعة حصينة يستحيل اقتحامها، وكأنها رمز للمقاومة الأوكرانية التى لا تهزم، لكن مصيرها لن يختلف غالبا عن مصير مدينة “ماريوبول” جنوب مقاطعة “دونيتسك” نفسها، التى سقطت بيد الروس قبل شهور، وبتكتيك الحصار والاعتصار والاقتحام المتمهل، وإنهاء أسطورة كتائب “آزوف” القومية الأوكرانية، وسيطرة موسكو على كامل “بحر آزوف”، وحرمان ما تبقى من أوكرانيا من أى إطلالة عليه، وهو المآل نفسه الذى تنتظره أوكرانيا فى الشرق، بإنهاء أسطورة ورمزية “باخموت”، التى يعد الاستيلاء عليها مفتاحا للتقدم الروسى إلى “سلافيانسك”و”كراماتورسك”، وهما أهم ما تبقى بيد الأوكران من مقاطعة “دونيتسك”، وقد لا يكون استيلاء الروس عليهما متاحا بتكنيك الاعتماد على جماعة “فاجنر” وحدها .
وفى المحصلة إلى اليوم، يبدو سقوط “باخموت” كأنه موعد ومحطة انتقال، إما إلى الهجوم الروسى الواسع المنتظر، أو إلى هجوم أوكرانى مضاد، يعده حلفاء أوكرانيا الغربيون وتخطط له واشنطن، ويروج له الرئيس الأوكرانى “فلوديمير زيلينسكى”، الذى يتصور بالوهم غالبا، أن دبابات الغرب وطائراته وصواريخه بعيدة المدى، قد تقلب له الموازين، وتمكنه من تكرار هجوم الشرق الخاطف فى سبتمبر وأكتوبر الماضيين، الذى أفقد روسيا مواقع سيطرة سابقة فى مقاطعة “خاركيف”، وفى “كراسنى ليمان” بمقاطعة “دونيتسك”، وقد جرى ذلك فى ظروف سابقة مختلفة، كان عدد القوات الروسية فيها محدودا بأوكرانيا، وكان التعويل الروسى فيها ظاهرا على الحلفاء الأوكران المحليين، ولم تكن قد أثمرت بعد قرارات التعبئة الجزئية، التى أضافت نحو 350 ألفا من الاحتياطى العسكرى الروسى، جرى تدريبهم على مدى شهور، وزاد بهم عديد القوات الروسية العاملة فى أوكرانيا لثلاث مرات، إضافة لتغييرات فى قيادة وإدارة العملية العسكرية الخاصة، انتهت إلى جعل مسئولية القيادة الميدانية بيد الجنرال “جيراسيموف” رئيس أركان الجيش الروسى نفسه، والدفع بأسلحة روسية أحدث، وبخطط مدروسة، تتلافى الأخطاء والاستهانات التى وقعت فى العام الأول للحرب، واعترف بها الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” شخصيا، وكلها وجوه تصحيح مؤثرة، قد لا تمكن التحالف الغربى من تكرار اختراقات سبقت، أساءت لسمعة الجيش الروسى ولهيبة روسيا، وأغرت الدوائر الغربية بتصديق إمكانية دحر روسيا فى الميدان الأوكرانى، وكسر قرارات موسكو بالضم النهائى للمقاطعات الأوكرانية الأربع فى الشرق والجنوب، التى تضيف أغلب أراضى “زاباروجيا” و”خيرسون” لمقاطعتى “الدونباس” ، وإقليم شبه جزيرة “القرم” ومدينة “سيفاستوبول” ، وكلها تمثل الحد الأدنى لأهداف روسيا فى الحرب الجارية ، ولا تضع موسكو سقفا زمنيا للمعارك ، ولا تبدى تململا من طول الوقت ، وإن كانت أوهامها حول سقف التدخل الغربى قد سقطت ، وتلاشت الخطوط الحمراء كلها ، وتداعت كل فرص اللجوء إلى تفاوض ، وبدت ردود فعل واشنطن وخمسين دولة حليفة على “المبادرة الصينية” موحية كاشفة ، فقد بدأت بالتحفظ عليها ، وانتهت إلى رفضها والتشكيك فى نوايا بكين ، وهو ما يعنى بوضوح ، أنه لا فرصة حتى لوقف إطلاق نار ، ولا لهدنة موقوتة ، وبات المشهد حديا وصفريا ، لا فرصة فيه لكسب سلام بدون كسب الحرب نفسها ، وهو ما قد يصوغ خطوة الروس المقبلة فى الحرب الجارية ، ولا أحد يعرف طبعا ما يدور فى رأس “بوتين” ، ولا حدود نواياه فى الهجوم الواسع ، الذى يعد له بنصف مليون جندى ، وقد يبدأ تنفيذه عقب إسقاط “باخموت” ، فأولوية موسكو معلنة فى استكمال السيطرة على “دونيتسك” وإجمالى المقاطعات الأربع حتى ضفاف نهر “دنيبرو” ، وجعل النهرخط حدود مانع طبيعي جديد لروسيا ، لكن ذلك قد لا يكون كافيا ، ما لم يكن مصحوبا باستسلام “كييف”ويأس الغرب ، وهو أمر لا يبدو مرجحا ، وقد يستلزم ضم روسيا لمناطق جديدة ، تساوم بها الغرب فى تفاوض لاحق ، كأن تكون هناك دائرة ثانية أوسع للعمل العسكرى الروسى ، تتقدم بها موسكو إلى الاستيلاء على ميناء “أوديسا” فى الجنوب ، وتغلق إطلالة الأراضى الأوكرانية على البحر الأسود ، وتستكمل الطوق إلى إقليم “تراتسنيستريا” بمولدوفا غرب أوكرانيا ، وهو سيناريو يتردد فى أوساط روسية مقربة من قصر “الكرملين” ، فيما يلوح الكرملين نفسه بسيناريو ثالث أوسع بكثير ، ويعرب عن استعداده لمواصلة الحرب إلى حدود “بولندا” ، على نحو ما قاله “ديمترى ميدفيديف” الرئيس الروسى السابق المقرب جدا من “بوتين” ، وهو المكلف على ما يبدو بتصريحات التلويح بالعصا النووية ، التى يبقى “بوتين” نوافذها مواربة ، بإجراءات الاستنفار النووى ، وبتعليق مشاركة موسكو فى معاهدة “نيوستارت” ، وبإعلان العزم على العودة إلى تجارب التفجير النووى ، ونصب صواريخ الدمار الشامل ، ربما لنشر الرعب فى قلوب الدوائر الغربية ، التى تعلن رسميا دعمها لأوكرانيا حتى آخر “سنت” ، وتقدم مئات المليارات من الدولارات وأحدث الأسلحة إلى “كييف” ، وعلى ظن مخاتل بأنه يمكن هزيمة روسيا ، وإن تواترت أمارات أمريكية وأوروبية على تراجع الثقة بانتصار أوكرانيا ، أو حتى ببلوغ هدف استنزاف روسيا ، التى تبدو مواردها كافية لتحمل تكاليف حرب طويلة ، ولم تتأثر كثيرا بآثار 15 ألف عقوبة فرضت على الاقتصاد الروسى ، الذى وجد مددا آخر لإدامة حيويته ، بالتحول إلى الشرق ، وبكسب أسواق الصين والهند وغيرهما ، وبتعميق تحالفات اقتصادية وعسكرية مؤثرة فى آسيا وإيران والمنطقة العربية وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، وبمرونة سياسية ناضجة ، لا تتوقف كثيرا عند تصويت بعضهم ضد روسيا فى جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة ، وبنسج شبكات مصالح مع أطراف واقعة كرها تحت ضغوط واشنطن ، ومن دون رغبات أصلية منها فى إغضاب روسيا ومقاطعتها ، وهو ما جعل حلم واشنطن بعزل روسيا دوليا ، يبدو كسحابة صيف عابرة ، لا تمطر ولا تبقى ، لا عند صغار النظام الدولى ولا عند الكبار ، وبدليل فشل واشنطن الظاهر فى دفع اجتماع وزراء مالية مجموعة “العشرين” الأخير بالهند للتصديق على بيان لإدانة روسيا ، ومطالبتها بالسحب الفورى لقواتها من أوكرانيا ، أضف ما يجرى فى دول غرب أوربا الكبرى ، وتواتر مظاهرات شعبية فى لندن وباريس وبرلين وغيرها ، تطالب بوقف سيل الدعم المالى والعسكرى لأوكرانيا ، الذى يضاعف أزمات الاقتصاد الأوروبى ، ومن دون أن يردع روسيا .
اخبار مشابهة