“ما بعد اتفاق السودان” عبدالحليم قنديل

0 66

هل يكون توقيع الاتفاق الإطارى الأخير خاتمة لعذاب السودان،؟
ثمة آمال عريضة فى أن يكون الأمر كذلك، خصوصا عند الذين تصوروا، أن محنة السودان محصورة فى نزاع بين مدنيين وعسكريين، الأخيرون من جهتهم، سواء فى القيادة العامة للقوات المسلحة برئاسة الجنرال “عبدالفتاح البرهان”، أو فى “قوات الدعم السريع” بقيادة محمد حمدان “دقلو”، كانوا الأكثر حماسا لتوقيع الاتفاق الإطارى، الذى يخرج العسكريين بالجملة من المشهد السياسى، ويسعى لتشكيل حكومة مدنية كاملة، تؤول إليها إدارة مرحلة انتقالية على مدى سنتين مضافتين، تزيد بهما سنوات المراحل الانتقالية إلى ست سنوات، وتمهد لإجراء انتخابات عامة، ربما فى أواسط عام 2025 .
ومع ما أثاره توقيع الاتفاق من ظواهر تفاؤل، وتأييد إقليمى ودولى واسع، سواء من بعثة الأمم المتحدة، أو من الرباعية الدولية المعنية (أمريكا وبريطانيا والسعودية والإمارات)، أو من دوائر الاتحاد الأفريقى، إضافة للسياسة المصرية التى سارعت بالترحيب كالعادة، وكلها قوى دفع معاونة لانقاذ السودان، لكن المهمة بالطبع تظل بيد أهلها السودانيين، وبالذات فى يد المدنيين والقوى الموصوفة بالمدنية، وأغلبها للأسف على أحوال انشقاق لا تنتهى، ومعها شوارع الخرطوم، التى لاتهدأ مظاهراتها واحتجاجاتها، على وقع أحوال اقتصادية واجتماعية فادحة التدهور، وتكاثر مجازر الدم، ليس بسبب المواجهات والمظاهرات وحدها، بل لأسباب صدام قبلى وعرقى، فى “دارفور” غرب السودان، وفى مناطق “النيل الأزرق” بالوسط، وفى الشرق المهمش المقصى عن قسمة الثروة والسلطة منذ إعلان الاستقلال السودانى، وكلها أزمات معقدة، أرخت ظلالها على حدث توقيع الاتفاق الإطارى، المفترض توسيع دائرة النقاش والاتفاق حوله فى الأسابيع المقبلة، كما يقول موقعو الاتفاق من المدنيين ، وهم أطياف متنوعة، تجتمع بالأساس حول “حزب الأمة القومى”، الجماعة الأكبر بين انشقاقات “حزب الأمة” التاريخى الطائفى العتيد، ويقودها أبناء الراحل “الصادق المهدى”، وقد كان رئيس الوزراء المنتخب الذى انقلب عليه عسكر حسن البشير، وبتدبير من جماعة “الإخوانى” الراحل “حسن الترابى”، وظل الانقلاب “الإسلامى” فى الحكم لثلاثين سنة ، خسر فيها السودان ثلث أراضيه بانفصال واستقلال دولة “جنوب السودان”، وكادت تنفصل منطقة “دارفور” فى الغرب، ومساحتها أكبر من مساحة فرنسا، ومع جماعة “حزب الأمة القومى”، وقعت على الاتفاق الإطارى مجموعات متعددة، منضوية حتى اليوم فيما يسمى “المجلس المركزى” لتحالف الحرية والتغيير وخارجه، كأحزاب “المؤتمر السودانى” و”التجمع الاتحادى” و”المؤتمر الشعبى” (جماعة الترابى) و”الحزب الاتحادى” (جماعة حسن الميرغنى) وبعض “أنصار السنة” و”التحالف الوطنى السودانى” و”الجبهة الثورية” (جناح الهادى إدريس) وجناح من “حزب البعث” و”تجمع المهنيين” (ب) وغيرها ، فى حين قاطعت الاتفاق جماعات حزبية مدنية وجهوية متناقضة، أبرزها بحسب موقع صحيفة “الراكوبة” السودانية ، الشق الآخر من تحالف الحرية والتغيير ، المعروف باسم “الكتلة الديمقراطية” بقيادة منى أركو ميناوى وجبريل إبراهيم و”تجمع المهنيين” (أ) و”الحزب الاتحادى الأصل” بقيادة جعفر الميرغنى ورئيس تنسيقيات شرق السودان الناظر ترك ، و”نداء أهل السودان” و”التيار الإسلامى العريض” و”الحزب الشيوعى” ، و”البعث العربى الإشتراكى” ولجان المقاومة بالخرطوم ، وقوى “الحراك الوطنى” بقيادة التيجانى السيسى ، وفرق منشقة عن “حزب الأمة” وغيرها كثير ، والمقاطعون كما هو ظاهر ، من اليمين ومن اليسار، ومن الراغبين فى تغيير راديكالي عنيف، ومن مجموعات أقرب ولاء لنظام البشير المخلوع، إضافة بالطبع لجماعات مسلحة فى دارفور والجنوب، أظهرها جماعة “الحركة الشعبية لتحرير السودان” بزعامة عبد العزيز الحلو، و”حركة تحرير السودان” بقيادة عبد الواحد نور ، وقد عارض “الحلو” و”نور” كل مسار انتقال السودان، ورفضوا الانضمام لوثائقه، من أول “الوثيقة الدستورية” أغسطس 2019 ، إلى “اتفاق جوبا” للسلام أكتوبر 2020، والاتفاق الإطارى الأخير طبعا، وهكذا يبدو المشهد السودانى ناطقا طافحا بتناقضاته، وحدة الصراع بين الأطراف الموصوفة بالمدنية أو بحمل السلاح، وربما يفسر ذلك بعضا من سلوك الجنرال “البرهان” قائد الجيش ورئيس المجلس السيادى الانتقالى حتى إشعار آخر، فقد أطاح الرجل بحكومة المدنى “عبد الله حمدوك” فى أكتوبر 2021، ثم عاد لاتفاق تعاون قصير الأمد معه، وإلى أن استقال “حمدوك” تحت ضغط غضب اداره الشارع ، الذى اتهمه بممالأة “انقلاب البرهان” ، ثم تفاقمت وتناسلت انشقاقات كتلة الحرية والتغيير التى قادت الثورة، ولجأت بعض أطرافها إلى مساندة الجيش وقيادة “البرهان” ، الذى بدا على قدر ملحوظ من المهارة السياسية، وأعرب قبل شهور عن رغبته فى إخراج الجيش من المشهد السياسى، ودعا الأطراف المدنية لاتفاق فيما بينها، كان يعرف مدى صعوبته وربما استحالته، وهو ما تكشف بالفعل مع الخلاف الساخن الراهن بعد توقيع الاتفاق الإطارى، الذى يخرج “البرهان” نفسه من رئاسة السلطة، ويحصر وجود قادة الجيش فى “مجلس الأمن والدفاع” برئاسة رئيس الوزراء المدنى المفترض، وينص فى الوقت نفسه على تنقية الجيش من أى وجود سياسى حزبى، فى إشارة إلى حق قيادة الجيش فى مطاردة والتخلص من أى مجموعات انقلابية، وكأن “البرهان” حرص على كسب الاستقلال بالجيش مقابل خروجه من دوامات السياسة، التى لا يرجح أن تتفق أطرافها المدنية على شئ جوهرى، خصوصا حين تتطور العملية إلى اختيار اسم لرئيس الوزراء المدنى القادم، بافتراض نجاح مشاورات لاحقة لتوقيع الاتفاق الإطارى، وانضمام معظم المقاطعين حاليا إليه، وإجراء تعديلات عليه، تمهد لدستور انتقالى، لا تبدو معضلاته قابلة لتوافق جامع، وفى نصوص حاكمة، من نوع نص اتفاق الإطار على وقوف الدولة على مسافة واحدة من الأديان كلها، أو فى ترجمة نص الاتفاق على كون السودان “دولة مدنية فيدرالية”، أو فى قضايا تظل معلقة، كمسائل العدالة الانتقالية وإصلاح قطاع الأمن وغيرها، إضافة لاحتمالات تفجر حوادث صدام دموى، باتت مألوفة متواترة، وكل ذلك قد يطيل فترة ما قبل الوصول لاتفاق نهائى أكثر شمولا، ويستبقى وضع السلطة الحالى لوقت غير معلوم، يبدى فيه الجنرال “البرهان” ضجره من خلافات السياسيين المدنيين، ويوالى نداءاته لهم بتسريع مناقشات التوافق، ويستعجل إجماعهم لنقل كراسى الحكم إلى سلطة مدنية كاملة، وهكذا يبدو “البرهان” فى صورة المتجرد النزيه الساعى لمصلحة السودان وأهله، بينما تبدو القوى المدنية “متشاكسة” إلى ما لا نهاية، مع ضيق الناس من تمديد زمن الفترة الانتقالية، وتفضيل معظم الأطراف المدنية الموافقة والمقاطعة، أن لا تجرى الانتخابات العامة سريعا، وتفقدها النفوذ المفترض فى الوضع القائم الرجراج .
والمعروف أن السودان الشقيق منذ إعلان استقلاله فى أول يناير 1956، عانى من دورات حكم خبيثة متكررة بين مدنيين وعسكريين، بين ديكتاتورية عسكربة، تسبقها وتعقبها أخرى مدنية، وقد حكم العسكر فى أغلب الفترات، ولعبت الأحزاب المدنية دورا ملموسا فى الدفع إلى انقلابات العسكريين، على طريقة دعم “حزب الأمة” لانقلاب الجنرال عبود، ودعم الحزب الشيوعى والناصريين لانقلاب النميرى ، ودعم “الجبهة القومية الإسلامية” لانقلاب البشير ، ومن دون أن تحقق فترات الحكم العسكرى ولا الحكم المدنى تطورا ظاهرا، فأصل محنة السودان فيما نظن، هو الضعف البادى لجهاز الدولة فى الجيش والخدمة المدنية، وتواضع مقدرته على دمج ومزج التنوع فى السودان، وإدارة موارده الطبيعية العظيمة الثراء، وحفظ الحد المطلوب من تماسك الوطن الواسع الجغرافيا، برغم الحيوية السياسية الفياضة للسودانيين عموما، ولنخبهم المثقفة الجريئة، وهو ما لا تبدو عوائده كافية لصناعة سودان جديد موحد، حتى مع التقدم المحرز فى تقويض ثقافة الانقلابات العسكرية، وفسح المجال لقيام حكومة مدنية خالصة، فالعلل المعيقة لا تزال منظورة، فى مشهد التفتت السياسى وانشقاقات الأحزاب التاريخية التقليدية، وقد نهضت طويلا على قاعدة التوزع الطائفى بين “المهدية” و”الختمية” د، وبين حزبى “الأمة” و”الاتحادى” ، برغم جهود التحديث فى “حزب الأمة” وقت قيادة الصادق المهدى، وتشظى “الحزب الاتحادى” المتفلت من سيطرة عائلة الإمام “الميرغنى”، وتفرق أهواء أفراد العائلة ذاتها، ولا يبدو الحال أفضل كثيرا فى الأحزاب الحديثة، خصوصا مع سيطرة نزعة دينية تقليدية على الكثير من جماعاتها ، قد لا تفيد كثيرا فى ضمان وحدة السودان، بقدر ما تضاعف من تمزقه، وعلى نحو ما إنتهت إليه تجربة حكم “البشير” و”الترابى”، وهو ما قد يعاود ظهوره من وراء ستار الحكم المدنى، ويدخل البلد من جديد فى دوائر زمن مفرغة، جاءت على حساب وحدة السودان وتنميته وتطوره، ودفعته إلى احترابات مهلكة، ندعو الله أن ينجى السودان والسودانيين من شررها وشرورها..

اترك رد