عبد الحليم قنديل يكتب”ضد جائحة التطبيع”

0 153

قبل أيام ، جرى عقد مؤتمر لافت فى “بيروت” عبر تقنية “زووم” ، شارك به مئات المثقفين والنشطاء من أغلب العواصم العربية ، وبصورة فاقت توقع الداعين المبادرين ، حمل المؤتمر الافتراضى عنوان “متحدون ضد التطبيع” ، وبدا كاستطراد لمؤتمرات واقعية سبقت فى العاصمة اللبنانية ، حملت شعارات من نوع “متحدون ضد صفقة القرن” ، فى إشارة لرفض ما كان يسمى خطة ترامب للسلام ، التى يحافظ الرئيس الأمريكى الجديد جوبايدن على عناصرها الكارثية الأساسية ، فيما يخص القدس وضم الجولان واتفاقات إبراهام ، وإن عاد إلى معزوفة “حل الدولتين” ، التى لا تعدو كونها قناعا قديما جديدا لخطة دونالد ترامب سيئة الذكر.
وبالطبع ، لا يملك عربى صادق ، سوى أن يستبشر خيرا بمبادرة “متحدون ضد التطبيع” ، وإن كان دعاتها والمبادرون إليها ، بحسب ما نشر منسوبا لبعضهم ، يلجأون أحيانا إلى مبالغات عظيمة الفجاجة ، من عينة أن مؤتمرهم الأسبق “متحدون ضد صفقة القرن” ، ساهم فى إسقاط ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية ، وهو خطأ لو تعلمون عظيم ، فالولاء لإسرائيل ، وجعلها قدس الأقداس ، هو نقطة اتفاق مطلق فى السياسة الأمريكية وأحزابها ، وترامب لم يسقط طبعا بسبب “صفقة القرن” ، بل لأسباب أمريكية داخلية ، كالخلاف حول نزعات الكراهية والعنصرية وأوضاع الاقتصاد وأزمات انعدام المساواة ، وبسبب الفشل الذريع فى مواجهة جائحة كورونا وغيرها ، ومن دون شبهة خلاف بين بايدن وترامب فى أولوية مصالح ومطامح كيان الاحتلال الإسرائيلى ، إضافة لكون بايدن معتزا كما قال بصهيونيته ، وحريصا على ملء مناصب إدارته الخارجية باليهود الصهاينة ، ولهم فيها نصيب الأسد ، وعلى رأسهم “أنتونى بلينكن” وزير الخارجية .
ماعلينا ، الأهم أن دعوة “متحدون ضد التطبيع” تبدو فى محلها تماما ، وهدف بلورة حركة شعبية عربية مقاومة للتطبيع أو “التتبيع” ، مما يستحق الحماس له ، وبذل غاية الجهد من أجله ، فقد تفشت خطايا التطبيع ، وصارت “جائحة سياسية” ، فوق كونها عارا ، وصرنا إزاء ست حكومات عربية خارج فلسطين المحتلة ، تقيم علاقات رسمية مع كيان الاحتلال ، ويتحالف بعضها معه ، مع احتمال انضمام حكومات مضافة ، فوق تفشى العدوى نفسها فى دول العالم الإسلامى بعامة ، التى يقيم الكثير منها علاقات “طبيعية” مع إسرائيل ، وهو ما يعنى اتساع الخرق على الراتق ، خصوصا مع غلبة علاقات التبعية المزمنة لأمريكا راعية كيان الاحتلال ، وصحيح أن حكومات عربية سبق أن طبعت مع إسرائيل ، ثم قلصت العلاقات أو أنهتها ظاهريا ، وتحت ضغط حوادث الحروب والمجازر ضد الفلسطينيين ، لكن الجديد المؤسى المخزى ، أن أغلب حكومات العرب اليوم ، فقدت أو كادت حساسيتها السابقة فى تغليب الهم الفلسطينى ، برغم استمرار تداول عبارات تصف العذاب الفلسطينى بقضية العرب المركزية ، على حد ما يرد فى البيانات المستنسخة لاجتماعات جامعة الدول العربية ، أو فى بيانات قرينتها “منظمة التعاون الإسلامى” ، ومن دون أن يصدق عاقل بيانات الحكومات إياها ، فأغلبها تتسابق إلى تطبيع وتوثيق علاقاتها بإسرائيل ، إما لكسب قلب أمريكا عبر محبة تل أبيب ، أو الاستعانة بإسرائيل ذاتها ضد أعداء يرونهم أكثر خطراعلى عروشهم ، على طريقة إحلال إيران محل إسرائيل فى أولوية العداوة ، أو حتى الادعاء بأن العلاقات مع إسرائيل ، قد تفيد الفلسطينيين فى مفاوضات “حل الدولتين” ، مع ضعف موقف “السلطة الفلسطينية” عموما فى الحال والاستقبال المنظور ، وكلها دواع مرئية ، تخلق بيئة مواتية لانتشار جائحة التطبيع عند الحكومات العربية المشتتة المعلقة ، المفتقدة غالبا لدعم شعبى يسند وجودها ، والمشغولة بمواجهة شعوبها لا بمواجهة كيان الاحتلال الإسرائيلى ، وهو ما يضفى وجاهة على الفكرة البسيطة القائلة ، أن التطبيع شأن الحكومات المتورطة أو الغارقة فيه ، وأن مقاومة التطبيع شعبيا هى الحل الممكن فى المدى المنظور ، وإلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا .
والمقاومة الشعبية للتطبيع ، لا تبدأ من فراغ ، فقد مرت نحو 42 سنة على أول معاهدة سلام عربية إسرائيلية ، وعلى أول تطبيع حكومى من طرف عربى ، فقد عقدت ما تسمى “معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية” عام 1979 ، وجرى تبادل العلاقات الدبلوماسية بعدها بعام ، ثم أضيفت علاقات اقتصادية ، لايزال بعضها متصلا كاتفاقات “الكويز” والغاز ، لكن العلاقات ظلت مقطوعة تماما على الصعيد الشعبى ، وظل التطبيع وصمة وخطيئة ، وجريمة سالبة لشرف المتورطين فيها ، ومقبرة يخشى الميالون للتطبيع من الدفن فيها ، وعلى طريقة ما جرى مؤخرا من تراجع المطرب المصرى محمد منير سريعا عن الذهاب للغناء فى القدس المحتلة ، وقبلها نوبات “تجريس” فنان مصرى آخر ، لمجرد أنه تورط بمصافحة إسرائيليين فى “دبى” ، وتعرض بسبب “الجريمة” لنبذ شعبى واسع ، بل عاقبه مواطنون مصريون تلقائيا بالإيذاء البدنى المباشر ، وهذه ليست حالة عصاب نفسى ، بل تعبير عن وعى راسخ وحيوية فائقة للشعب المصرى ، الذى يمثل وحده نحو ثلث شعوب الأمة العربية كلها ، وقدم فى الحروب مع إسرائيل أكثر من مئة ألف شهيد وجريح ، وظل جيشه إلى اليوم على عقيدة العداء لكيان الاحتلال الإسرائيلى ، وأبدت طلائعه الوطنية بسالة متصلة ضد التطبيع المفروض ، وبرزت فى المعركة ضد التطبيع أسماء لأبطال وشهداء عظام ، بينهم سعد إدريس حلاوة وخالد جمال عبدالناصر ومحمود نور الدين والجندى سليمان خاطر والجندى أيمن حسن وأحمد الشحات وغيرهم كثير ، وذهب مئات المثقفين مرارا إلى غياهب السجون ، بسبب رفضهم القطعى للعلاقات مع العدو ، ونجحت تضحياتهم الجليلة فى قطع دابر التطبيع المرئى شعبيا ، وصولا إلى حرق السفارة الإسرائيلية غرب نيل الجيزة أواخر 2011 ، وانزواء السفير الإسرئيلى من بعدها ، فى محل إقامة معزول أمنيا بضاحية المعادى ، وحيدا لا يزور ولا يزار ، وقد لا يتسع المقام لإيراد تفاصيل أكثر عن ملحمة الشعب المصرى ، وهى أبلغ وأعظم التجارب الشعبية العربية فى مقاومة التطبيع ، وكثير من روحها انتقل للأردن بعد عقد معاهدة “وادى عربة” 1994 ، خصوصا مع قوة المورد السكانى الفلسطينى فى البنية الشعبية الأردنية ، وبما صنع سوابق ملهمة لأى سعى شعبى آخر لاحق ، فهى المثال الواقعى المجسد لمعنى مبادرة “متحدون ضد التطبيع” ، فليس المطلوب مهرجانات خطابة وتنديد ، ولا بيانات منابر ومقابر ، بل عمل مدروس ، يتقبل وجود خلافات لا تنتهى بين التيارات والأحزاب والهيئات والنقابات فى كل شئ وأى شئ ، إلا باستثناء الموقف المنحاز تماما لقضية الشعب الفلسطينى ، والرافض لأى تطبيع مع العدو الصهيونى ، فالصراع معه قضية وجود لا تسويات حدود ، وما تفعله حكومات التطبيع لا يلزم الشعوب ، وقد كان ذلك دستورا ساريا لحركات مقاومة التطبيع الأولى ، ويستحق أن يبقى كذلك فى مبادرة “متحدون ضد التطبيع” وغيرها .
وقد لا يصح إنكار وجود عقبات مضافة مع تلاحق الثورات المحبطة فى السنوات العشر الأخيرة ، من نوع تفاقم الخلافات واحتدامها بين الفئات والتيارات الشعبية العربية ، وتحولها إلى مفاصلات وحروب دم فى عدد من الأقطار العربية المركزية ، وهو ما يؤثر سلبا بالطبيعة على أى جهد مشترك جامع ضد جائحة التطبيع ، وهذه حقيقة ووضع مقبض ، يمكن تجاوزه بتنزيه قضية فلسطين عن أى خلاف فكرى أو سياسى ، وعن أى حروب أهلية جارية فى أى قطر عربى ، وهذه مهمة صعبة ، لكنها ليست مستحيلة ، ومما قد يجعلها ممكنة أكثر ، أن تساعد فيها الحركة الوطنية الفلسطينية ذاتها ، بوقف احتراب فصائلها ، وبتوحيد خطابها السياسى ، وبابتعادها الكلى عن الصراعات والخلافات الجارية فى باقى الأقطار العربية ، وبتركيزها المطلق الوحيد على استعادة الحق الفلسطينى ، ورد الاعتبار لفلسطين كقضية تحرير وطنى ، واتباع سبيل المقاومة الشعبية والمسلحة أولا ، وهو الطريق وحده الذى يحيى القضية الفلسطينية ، ويثير الالتفات الشعبى العربى إليها ، ويشجع التيارات الشعبية العربية على القفز فوق خلافاتها ، والاجتماع حول قضية فلسطين من جديد ، وبما يجعل لحركات مقاومة التطبيع هدفا ملموسا ، هو إعادة بناء جدار المقاطعة العربية للعدو الصهيونى ، وصوغ تكامل تلقائى محسوس بين المقاومة فى فلسطين والمقاطعة الشعبية فى عموم العالم العربى ، وتجديد قداسة فلسطين فى ضمير ووجدان العرب بعامة ، وممارسة ضغط فعلى على حكومات التطبيع ، واستبدال أحوال الركود القاتل للوجدان ، التى راكمتها مقامرات وأوهام الركض وراء سلام بائس وتسويات مذلة ، يتخذها التطبيعيون تكئة للترويج لانصراف عام عن الاهتمام بالقضية الفلسطينية ، واعتبارها شأنا يخص الحكومة الفلسطينية لا سواها ، فخيار المساومة ـ باسم المفاوضة ـ يميت القلوب ، وخيار المقاومة وحده يحيى المقاطعة النبيلة ، وباسم الشعوب الأبقى من حكومات الزوال .

اترك رد