“ثورة ومؤامرة فى لبنان” عبد الحليم قنديل

0 263

تفسيركل شئ بمنطق المؤامرة مرض عقلى ، ليس لأنه لا وجود لمؤامرات ، بل لأنها أكثر من الهم على القلب ، وفى عالم العرب بالذات ، الذى تحول إلى مقلب نفايات ومؤامرات ، لا يكفى وجودها لتفسير كل حدث يجرى ، ولا لإخفاء العطب الكامن والظاهر فى المجتمعات ونظم الحكم الديناصورية ، ووجوه الخلل التى تجعل سيوف الأعداء والجيران سالكة فينا ، وتثير من القلاقل والثورات والانتفاضات والحروب ما لاينفد مدده ، وحتى إشعار آخر ، قد لا يجئ قريبا .

اخبار مشابهة
1 من 50

ولبنان واحد من أصغر الدول العربية ، جغرافياه تزيد قليلا على عشرة آلاف كيلومتر مربع ، وعدد سكانه من اللبنانيين فوق الأربعة ملايين ، إضافة لنحو مليونين آخرين من اللاجئين الفلسطينيين والسوريين ، واللبنانيون أكثر شعوب العرب هجرة من بلادهم ، ويقدر عدد المغتربين اللبنانيين بما قد يجاوز ضعف عدد المقيمين ، ونظام لبنان السياسى فريد فى بابه ، فالشعب اللبنانى عظيم الحيوية ، لكن النظام الحاكم غاية فى الجمود ، ولم تنجح حرب أهلية امتدت 15 سنة ، وسقط فيها 120 ألف قتيل على أقل تقدير ، أن تغير شيئا فى صيغة الحكم والمحاصصة الطائفية فيه ، برغم تغيرات كبرى حدثت فى الأوزان النسبية للطوائف ، فقد نزلت نسبة المسيحيين المقيمين فى لبنان إلى ما يزيد قليلا على ثلث إجمالى السكان ، لكن ظلت لهم عموما نصف مقاعد التوزيع الطائفى فى الحكم والإدارة ، والنصف الآخر لطوائف المسلمين السنة والشيعة مع الدروز ، كانت نسبة المسيحيين نحو 84% فى لبنان الأول تحت الاحتلال الفرنسى أواسط عشرينيات القرن العشرين ، وعند نهاية الانتداب الفرنسى بالقرب من أواسط أربعينيات القرن الفائت ، وولادة لبنان الموسع المستقل (الميثاقى) كما يوصف ، كان اختيار المناصفة بين المسيحيين والمسلمين ، وعلى أن يكون رئيس الجمهورية مسيحيا مارونيا ، ويكون رئيس الوزراء مسلما سنيا ، ويكون رئيس مجلس النواب مسلما شيعيا ، مع مناصفة عضوية مجلس النواب (128 مقعدا) بين المسيحيين من جهة والمسلمين والدروز من جهة أخرى ، مع أنصبة محفوظة للطوائف الفرعية ، وعددها 18 طائفة ، ومع حفظ الأنصبة التفصيلية ذاتها فى الوزارات والإدارات ، وفى الوظائف المالية والقضائية والشرطية والعسكرية ، ولم يتغير شئ جوهرى بنهاية الحرب الأهلية ( 1975 – 1990) ، وعقد اتفاق الطائف ، الذى حافظ على المحاصصات كلها ، وباستثناء وحيد ، هو الحد من صلاحيات رئيس الجمهورية المارونى حتما ، والزيادة فى صلاحيات رئيس الوزراء السنى حتما .
وكان طبيعيا ، أن يتوق اللبنانيون بحيويتهم الفائقة إلى فك القيد الطائفى ، خصوصا أنهم يتمتعون بحريات حركة وتعبير ملحوظة ، مع حكم هش ، أشبه بوضع الشركة المساهمة التى لاتتغير طبيعة ملاكها ، وهو ما جعل الوضع عرضة لانفجارات متلاحقة ، لايحتويها إلا ضامن من خارج لبنان ، وعلى نحو ما ضمنت مصر عبد الناصر استقرار لبنان لوقت طويل نسبيا ، حتى انفجرت دواعى الحرب فيه أواسط السبعينيات ، ربما فى ذات الوقت الذى جرى فيه الانقلاب على اختيارات عبد الناصر فى مصر عقب حرب أكتوبر 1973 ، ثم تقدمت أطراف أخرى لملء فراغ الدور المصرى بعد الحرب الأهلية اللبنانية ، كان أبرزها الدور السعودى المزدوج مع دور نظام الأسد فى سوريا ، وإلى أن انفجرت الشراكة السعودية – السورية مع اغتيال رفيق الحريرى أواسط العقد الأول من القرن الجارى ، ودخلت إيران على الخط اللبنانى بقوة عبر دعم متصل لحزب الله الشيعى ، وكانت المحصلة ، أن تزايدت هشاشة الحكم الطائفى ، وظل الوضع قريبا على الدوام من حافة التفجير ، بالذات مع تزايد وتيرة عقوبات أمريكا ضد إيران ، وضد حزب الله بالذات خدمة لإسرائيل ، مع دخول سوريا فى نفق الحرب المهلكة، بعد ثورة سلمية قصيرة المدى مقصوفة العمر ، وتخلى السعودية عن دورها كداعم نقدى لحكومات لبنان.
كانت تلك كلها موارد صنعت محنة لبنان الحالية المتفاقمة ، فقد قارب إجمالى ديون البلد الصغير الجميل نحو المئة مليار دولار ، واضطر للتوقف عجزا عن سداد ديون سندات اليوروبوند (1.2مليار دولار) قبل شهور ، وتفاقمت أرقام البطالة ، وزادت نسبتها على الأربعين بالمئة من قوة العمل المفترضة ، مع اقتصاد ريعى (سياحى أساسا) ، كاد أن يغلق أبوابه ، حتى قبل تداعى مضاعفات جائحة “كورونا” ، وانهيار مرعب فى قيمة الليرة اللبنانية ، التى كان مصرف لبنان قد ثبت قيمتها لعقود عند 1500 ليرة مقابل الدولار الواحد ، بينما هوت قيمتها بإطراد ، وصار الدولار الواحد يساوى نحو ثمانية آلاف ليرة ، برغم تدخل حكومة حسان دياب ، ودفعها (مصرف لبنان) إلى ضخ مئات ملايين الدولارات فى السوق ، وكان الإجراء عبثيا ، وأثره عابرا جدا ، ولم يؤد سوى لاستنزاف القدر القليل المتبقى من احتياطى العملات الأجنبية ، وربما يدفع إلى بيع احتياطى الذهب فى مصرف لبنان المركزى ، المقدر بنحو 269 طنا ، وهو ما قد يعنى إشهارا كاملا للإفلاس ، وقد أفلست مصارف لبنانية عديدة بالفعل ، مع ضغط عقوبات التتبع الأمريكية ، وتراكم ديون البنوك المتعثرة لدى الحكومة والقطاع الخاص ، بعد أن كانت ضمانات مصارف لبنان وسرية حساباتها ، واحدة من امتيازات الوضع اللبنانى ، وكانت خدماتها مفضلة لدى أثرياء المنطقة بعامة ، أضف إلى هذه المحن كلها ، ما جرى ويجرى مستجدا من تبعات سريان (قانون قيصر) ضد الحكومة السورية ، والقانون ـ إياه ـ يطارد كل المتعاملين مع الاقتصاد السورى ، وليس بين سوريا ولبنان فواصل تذكر ، ولا حدود جرى ترسيمها إلى اليوم ، فقد كان لبنان جزء من سوريا كما هو معروف ، ولم يجر تبادل التمثيل الدبلوماسى بين البلدين إلا بعد خروج القوات السورية من لبنان قبل سنوات .
وبطبائع الأمور، تكفى أزمات لبنان لإشعال ألف ثورة غضب ، وليس ثورة واحدة متصلة ، تتواتر مشاهدها السلمية فالعنيفة على مدى شهور مضت من نقطة البدء فى أكتوبر 2019 ، قطعها صمت الشوارع المفروض بطوارئ “كورونا” ، وإن لم تنتظر ثورة الغضب اللبنانى انزياح الوباء ، وعادت قبل فك الحظر ، من ميادين بيروت إلى ساحات طرابلس وبالعكس ، وجمعت فى صيحاتها ومظاهرها العفوية التلقائية ، بين دواعى الضيق من تحكم الطبقات الطائفية وبطاناتها الدينية ، ودواعى الألم من الجوع الزاحف مع شبح الإفلاس المالى ، وتوحش فساد مليارديرات الطوائف وعائلاتهم ، وكلها أسباب واقعية طبيعية كافية ، ترشح لبنان كمنصة افتتاح عاصف للموجة الثالثة من الثورات العربية المحبطة ، التى قد تتمدد هذه المرة إلى أقطار الخليج الناجية من عواصف الموجتين الأولى والثانية فى 2011 و 2019 ، مع فوارق مآسى مضافة تميز الوضع اللبنانى ، فيها هذه المرة صور المؤامرة المرئية ، التى لا تنشئ الثورات طبعا ، بل تلعب دورا فى تحريف معانيها ومساراتها ، فلبنان على فساد حكمه السياسى وطبقاته الناهبة للثروات ، هو أيضا ملعب مفتوح بلا ضابط ولا رابط ، وتعمل على أراضيه كل أجهزة مخابرات الدنيا ، وأمراء الطوائف كلها على صلات وصل محسوس مع قوى خارجية عربية وأوروبية وأمريكية وحتى إسرائيلية ، والمصالح متداخلة ومتعارضة فى الوقت نفسه ، وهو ما يفسر ظواهر خطر تتداعى ، بينها حرص طبقات الحكم الطائفى على خنق صوت الثورة الحقيقى ، وقد بدأت ثورة لبنان فى صورة زاهية ، وبدت كأبهى ثورة فى عالم العرب ، وكانت الثورة الأجمل تطارد حلما عنيدا ، هو حلم تصفية الحكم الطائفى ، والتحول بلبنان إلى حكم وطنى ديمقراطى ، تكون المواطنة المتساوية فيه هى الأساس ، وكان مفهوما أن تفزع طبقات الحكم الطائفى ، وأن تسعى لحرف ثورة الغضب عن مراميها الجامعة ، وأن تسعى لتفريغ الغضب فى المجارى الطائفية ، وعلى نحو ماجرى وتكرر فى قلب بيروت ، باستثارة فتن مذهبية بين السنة والشيعة ، خصوصا بعد خروج آل الحريرى من الحكومة ، واعتبارهم حسان دياب عميلا سنيا لحزب الله الشيعى ، وتدبير بعض من جمهور “حزب الله” و”حركة أمل” لغارات متكررة على قلب بيروت “السنى” ، وهو ما كانت له ردة فعل معاكسة فى طرابلس وصيدا ، والمحصلة : تحوير طائفى للثورة ، أضف إليه تحويرا آخر ، ليست السفارة الأمريكية ولا بعض السفارات الخليجية بعيدة عنه ، وكلها جهات تعتمد شعارا ترويجيا معروفا ، هو وصف حكومة حسان دياب بحكومة حزب الله ، برغم أن الأخير لا يجوز فيها سوى وزيرين ، وهدف الوصف معروف ، وجرى شفعه بتحريك قسم من الجمهور السائل ضد سلاح حزب الله ، واعتباره السبب فى تجويع اللبنانيين ، وطمس معانى الثورة الأصلية كلها لخدمة أولويات واشنطن وكيان العدو الإسرائيلى ، وكلها بالطبع من دواعى تحريف الثورة ، التى قامت أصلا ضد الطائفية والفساد والتجويع.

اترك رد